هذه الأيام؛ لا يصك سمعك إلا حوادث الإجرام المتناثرة على ربوع الوطن العزيز، تعددت كثرة وتنوعت بشاعة، وبسطت جوا من الخوف في النفوس، حتى صار الأمن مطلبا ملحا قبل كل شيء، وطغى الرعب وكثرت الأقاويل نتيجة اختلاط الواقع بالخيال والوهم، وصار الناس يمشون في الشارع وهم يلتفتون كالثعلب خوفا ورهبا، يحسبون كل ظل لصا، وكل صوت صراخ ضحية.
يمشون متوجسين، يخرجون بلا ثقة في الشارع، يشكون في كل غاد أو رائح، يهابون السير وحيدين أو في الزحام، يتوجسون من ركوب دراجة أو سيارة نقل أو حافلة…، أين المفر إذن وربما على بابك يقف مجرم؟ ينتظرك على مهل ويسرقك بتؤدة وربما ترك بصمته على جسدك بكل ثقة وافتخار. ما الذي يحصل؟!
ألهذا الحد انعدم الأمن وانتشر الرعب والإجرام؟ حتى في بيوت الله التي جعلها الله حظيرة أمن وأمان صارت فيها عبارة (ضع حذائك أمامك) لازمة في كل مسجد؟ أفي الأمر مبالغة؟ أم أنه لا دخان بدون نار؟!
مهما تناسلت الأسئلة يبقى السؤال الأهم، ما الحل؟
هل نستسلم للأمر الواقع ونعيش حالة من الرعب تفقدنا لذة الحياة، لذة رهينة بنعمة الأمن التي لو سلبها الله قوما كان باطن الأرض خيرا لهم من ظاهرها، أما قلل الجبال فربما لم تعد تفي بالغرض. فالأمن نعمة ربانية يمن بها الله على من يشاء، وقد امتن الله على العرب بهذه النعمة لعظم قدرها كما في قوله عز وجل: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” وقال جل ذكره: “أولم لم نمكن لهم حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم”.
واقعنا يشهد زلزالا على مستوى القيم، وأقوى دلائله انعدام الأمن وانتشار الجريمة كما وكيفا، بلغ درجة تدل على أن الأمر وصل حدا يحتاج إلى النفير العام من أجل احتواء الظاهرة والقضاء عليها في النهاية.
وعندما نصل إلى الحديث عن الحل تتباين الأفكار وتختلف وجهات النظر، وكل يرى الحل من زاوية معينة، وبعضهم يراه شموليا لكن هذا الشمولية تلغي أهم وأنجع ما فيها ألا وهو الدين، وهذا مرده إلى كون من يتصدى لهذه القضايا بالمعالجة محكوما بالنظرة العلمانية في التعاطي مع الواقع، وبالتالي الدين عنده في خبر كان، ولا مجال له في الواقع الحاضر وحتى في المستقبل!. ولأن أعمى البصيرة لا يرى الحقيقة الإلهية كما هي، وهذه الحقيقة أنه مهما فعلنا وقدمنا من حلول سواء الأمنية والاقتصادية والتنموية… والتي لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها فإنها ما لم تجعل الدين في مقدمتها فهي محكومة بالفشل وهو كذلك. ودونك سنوات من التدبير الفاشل.
الناس يحملون الجهات الأمنية المسؤولية ولها منها نصيب، لكن هذه الجهة لن تستطيع وحدها مهما فعلت من جهد، لأن هذا الجهد لا ينبغي أن يتقدم جهد العلماء والفقهاء والوعاظ والمربين الصادقين؛ أصحاب الوصفة السحرية لعلاج الواقع كله بما في ذلك الإجرام المتفشي، ويبقى الأمني خلف هؤلاء يتبع خطاهم حتى إذا عجزوا عن بعض الحالات تدخلوا، “فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، ومما يدل على عدم نجاعة الرؤية الأمنية يكفي النظر إلى عدد حالات العود أكثر من مرة، حيث لا يلبث المرء خارج أسوار السجن إلا أياما معدودة حتى يعود خلف القضبان بجريمة أبشع وأقبح. وربما دخل مخطئا غرا وخرج محترفا صاحب خبرة، علاوة على مظاهر الانحراف التي تعرفها أسوار المؤسسات السجنية.
ليس مطلوبا اليوم إحداث مجلس أعلى للجريمة بالقدر ما هو مطلوب تنحية الهيمنة العلمانية عن تدبير شؤون الشعب المسلم، فقد أغرقته في دوامة من المشاكل لا حصر لها، ولا حل إلا أن تفتح أبواب السجون للعلماء والوعاظ ولو تأسيا بدول الغرب ( أمريكا نموذجا)، فإن النفوس لا ترجع عن غيها ما لم يكن لها من الله رادع، وكذا فتح المجال لأهل العلم أن يتكلموا بصراحة وشجاعة وأن يتواصلوا مع الشعب دون عقدة الخوف التي كبلت الأرجل وقيدت الألسن.
المطلوب للحل فسح المجال لدور القرآن لتشتغل بأريحية وليمتد نشاطها إلى أخطر الأماكن وأكثرها إجراما، فإن أهلها لهم من القدرة على التأثير ولو على أعتى المجرمين، فضلا من الله ونعمة، فإن للقرآن سحرا ليس لسواه، وقد حققت هذه الدور أيام نشاطها على مستوى الأمن نتائج ربما عجزت عنه المقاربة الأمنية بصورة لا يستطيع أن ينكره إلا معاند، وقد شهد بذلك المسؤولون أنفسهم وعند جهينة الخبر اليقين.
الحل الشرعي هو أنجع الحلول وأقلها تكلفة وجهدا ووقتا، فقط يحتاج الأمر إلى إرادة صادقة وحرقة على هذا الوطن ومصلحته العليا، وإلا من يستطيع أن يفهم سر بث برامج تعلم الإجرام وتصقل مواهب المجرمين؟ هل تعالج الإجرام أم أن الربح على حساب القيم يبرر الوسيلة؟ ما فائدة برنامج لأخطر المجرمين، وآخر في مسرح الجريمة، وأفلام تقوم على الإجرام قالوا لإثارة والتشويق فإذا هي مدارس للإجرام؟!!.
في البرامج الإعلامية لا حديث إلا عن الحلول الأمنية، وهنا نتساءل كم من السجون تكفي؟ وكم من الشرطة نحتاج؟، وكم من أموال ستصرف تتقل كاهل الميزانية بلا فائدة، فأين هو الحل الشرعي وأين هي الحدود الشرعية؟ أين هم العلماء؟ لم إغلاق دور القرآن رغم الدور المنشود والمشهود؟ فالإجرام توغل وصار جزءا من كيان الشخصية عند كثير من أفراد المجتمع، والحل الجدري أن يترك العلماء والوعاظ يتكلمون وعلى أيديهم يتحقق وعد الله وتحل نعمته الكبرى التي بدونها تضيع الدنيا الدين.
هذه النعمة مهددة بالزوال أو النقصان في أقل الأحوال، لأنه لا تحل نعمة إلا بالإيمان والتقوى، ولا تثبت إلا بالشكر والطاعة، ولا تزول إلا بالكفر والنكران حين يقابل المنعم بالعصيان. ولذلك يرفعها الله عقابا منه للجاحدين، (وإن كان هذا الكلام لا يعجب بني علمان)، لكنها الحقيقة التي ذكرها القرآن في قوله تعالى” ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع” وتأمل كيف يجمع الله بين الخوف والجوع في الآيات التي تناولت الموضوع، كما حكى القرآن عن أقوام بسط الله عليهم الأمن نعمة فنزعه منهم نقمة لعدم الوفاء بواجب الشكر قال تعالى” ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ياتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”.
الأمن نعمة، والنعمة يهبها الله لمن يشاء ويرفعها عمن يشاء، ونعمته لعباده الصالحين موصولة غير مقطوعة، وهي مشروطة بشرط اشترطه الله في قوله “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا”، فلنحقق العبودية إذن.