نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله و صفاته و خلقه للعالم

خاض أبو الوليد بن رشد الحفيد في مواضيع كثيرة تتعلق بإثبات وجود الله تعالى وصفاته، وخلقه للعالم، فكانت له منها مواقف واجتهادات، انطلاقا من خليفته الفلسفية الأرسطية المشائية في اختياره لتلك المواقف والاجتهادات، وهي التي ننتقده فيها على ضوء الشرع والعقل والعلم.
أولا: نقد موقف ابن رشد من الطريقة الشرعية في إثبات وجود الله تعالى:
ذكر ابن رشد أن الطريقة الشرعية في إثبات وجود الله تعالى المذكورة في القرآن تنحصر في جنسين، أحدهما: دليل العناية، كالعناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، وثانيهما دليل الاختراع، كاختراع الحياة في الجماد، والعقل والإدراكات الحسية في الإنسان.
ويُلاحظ عليه ما يأتي: أولا إنه لم يذكر دليل الفطرة، كدليل مستقل يُضاف إلى الدليلين اللذين ذكرهما، مع أن دليل الفطرة هام جدا، أشارت إليه النصوص الشرعية، كقوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الروم 30، و(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) سورة الأعراف 172، وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)، لكن ابن رشد أغفل ذلك ولم يذكره هنا، لكنه أشار إليه –أي دليل الفطرة- بعدما قرر ما نقلناه عنه، ولم يُورده كدليل مستقل، وإنما ذكره كأرضية للدليلين السابقين.
وثانيا إن التسمية التي أطلقها على الدليلين السابقين ناقصة، وإن كان معناهما صحيحا، فدليل الاختراع لم يرد في الشرع بهذا اللفظ، ولا وجود للفظ الاختراع في القرآن الكريم، لذا فإن اللفظ الشرعي الصحيح لفظا ومعنى هو: دليل الخلق والإبداع، فهذان اللفظان لهما ذكر في النصوص الشرعية، خاصة الأول الذي تكرر مرات كثيرة، كقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) سورة السجدة 7، و(إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) سورة آل عمران 190، و(بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) سورة البقرة 117.
وأما بالنسبة لدليل العناية، فإذا كان معناه صحيحا، فإن هذا اللفظ لم أعثر له على ذكر في النصوص الشرعية، ويُستحسن تعويضه بدليل الحكمة، لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم في آيات كثيرة جدا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة البقرة 220، و(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) سورة الأنعام 83، فالعالم الذي خلقه الله تعالى شاهد علن أن خالقه حكيم، ولم يخلقه سدا وعبثا، وإنما خلقه لحكم وغايات سامية.
وثالثا إن لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، تعليقا على طريقة ابن رشد التي قررها في الكشف، أنصفه فيها، بقوله: (فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة، هذا مع أنه يقدر القرآن قدره ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق كما قد بُسط في موضعه).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *