من الأرجح أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قد غيّر موقفه من المنطق الأرسطي، بعدما خرج من مرحلة الشك والحيرة، وما إقدامه على الرد على الفلاسفة إلا دليل على ذلك، فهو قد بدّعهم في 17 مسألة، وكفّرهم في ثلاث مسائل، كما هو معروف عنه، فلو كان ما يزال على موقفه من المنطق فلا معنى للرد عليهم، لأن المنطق عاصم من الخطأ، فسيعصمهم منه ويجعل فلسفتهم موثوقا فيها، لكن بما أنه رد عليهم وضلّلهم وكفّرهم، فهذا يعني أنه غّير موقفه من المنطق، الذي لم يعصم أصحابه من الضلال والكفر، وإلا فلا معنى لرده عليهم.
وأرجع شيخ الإسلام ابن تيمية مبالغة بعض المناطقة المسلمين في تعظيم المنطق، وقولهم بأنه فرض كفاية، إلى أحوالهم النفسية والفكرية الباطنية، وذلك أن حالتهم المعنوية كانت في غاية الجهالة والضلالة، فقدوا خلالها أسباب الهداية كلها، فلم يجدوا ما يردهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من أمور صحيحة، فكان ذلك سببا في رجوع كثير منهم عن بعض باطلهم، دون أن يحصل لهم حق ينفعهم، وإنما وقعوا في باطل آخر.
وأما القائلون بوجوبه -أي المنطق- فهم من غلاة المنطق وجهال أصحابه، وإلا فإن حُذاقه منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يُعرضون عنها لطولها، أو لعدم فائدتها، أو لفسادها، أو لعدم تميّزها وما فيها من الإجمال والاشتباه، فإن فيه مواضع كثيرة لا أهمية لها، ومن قال منهم بوجوبه شرعا، فقد أُتي من نفسه بترك ما أمر الله به من الحق، فاحتاج إلى الباطل.
ورد -أي ابن تيمية- على من زعم بأن منطق اليونان فرض كفاية، أو أنه من شروط الاجتهاد، بأن قوله هذا هو في غاية الفساد، ولا يصح نسبة وجوبه لشريعة الإسلام بوجه من الوجوه، ويدل أيضا على جهل صاحبه بالشرع والمنطق معا، وفساده معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وذلك أن أفضل الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، عرفوا ما يجب عليهم، ويكمل دينهم وإيمانهم، قبل تعريب منطق اليونان، فكيف يقال إذن إنه لا يُوثق بعلم لم يُوزن بالمنطق؟!
وختاما لما ذكرناه عن ابن تيمية، نشير هنا إلى ثلاثة فوائد، أولها أن لابن تيمية انتقادات ومناقشات مطوّلة للمنطق ورجاله، لم نعثر على مثلها في تراثنا الإسلامي، نجدها في مصنفاته، كمجموع الفتاوى، والرد على المنطقيين، ونقض المنطق.
وثانيها أنه نُشرت حديثا دراسات علمية متخصصة، تناولت نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي، وأظهرت أهمية ما قام به ابن تيمية، بشكل لم يُسبق إليه، وفق منهج شرعي عقلي استقرائي تجريبي، منها -أي الدراسات-: كتاب مناهج البحث عند مفكري الإسلام للمنطقي علي سامي النشار، وكتاب منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري للباحث محمد حسني الزين، وكتاب ابن تيمية والمنطق الأرسطي للمنطقي محمود يعقوبي، وهذه الكتب منشورة ومتداولة بين أهل العلم.
وثالثها أنه رغم اشتداد ابن تيمية في ذم المنطق المشائي وانتقاده له، وإظهاره لعيوبه ونقائصه، فإنه اعترف بأن فيه قليل من العلم، وأنه قد يستفيد منه أناس كفار في ترك ما عليه قومهم من ضلال، لكنه مع ذلك لا يوصل أهله إلى حق يهتدون به، ومن استفاد منه من هؤلاء فإنما لكونهم كانوا في أسوأ حال لا أن المنطق فيه كمال.
وقال: إن المناطقة لم ينتفعوا بصحيح المنطق في معرفة الله تعالى، وباطله أوقعهم في غاية الكذب والجهل به سبحانه وتعالى، ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور، كما أن في المنطق بعض الحق، لكن كثيره أو أكثره لا يُحتاج إليه، والذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تصل إليه من دونه، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه.
وأما العالم الرابع فهو شمس الدين الذهبي، عدّ المنطق طريقا من طرق الضلال، وقال: من ابتغى الهدى في المنطق والفلسفة أضله الله.
وخامسهم المحقق ابن قيم الجوزية حرّم الاشتغال بالمنطق الأرسطي، وقال أنه مُعوِّج للعقول، ومخبّط للأذهان، ومزيّغ للفكر، ومخالف لصريح المعقول، لكثرة باطله، وتناقض أصوله، واختلاف مبانيه، ومناقضته للعقل الصريح، وتفريقه بين المتساوين، وجمعه بين المختلفين، فيحكم على الشيء بحكم ويحكم على نظيره بحكم يضاده، أو يحكم على الشيء بحكم، ثم يحكم على مضاده أو مناقضه بنفس الحكم.