خامسهم سيف الدين الآمدي، قال عنه ابن تيمية: إنه من المتفلسفين المتأخرين الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، فكثُر اضطرابه وشكه وحيرته، بحسب ما ازداد به من ظلمة المتفلسفة الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، وقال عنه ابن القيم: إنه كان في المسائل الكبار يذكر حجج الطوائف، ويبقى هو واقفا حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ثم ذكر قوله تعالى: (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) سورة النساء 88.
وذكر الحافظ الذهبي أن شيخه ابن تيمية حدّثه عن الآمدي بأن الحيرة والوقف كانا يغلبان عليه –أي الآمدي- ، حتى أنه أورد على نفسه سؤالا في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا، ثم بنى عليه إثبات الخالق، فهو لا يقرر في كتبه إثبات الله، ولا حدوث العالم، ولا وحدانية الله، ولا النبوات، ولا شيئا من الأصول الكبار، ثم عقّب الذهبي على كلام ابن تيمية بقوله: (قُلتُ، هذا يدل على كمال ذهنه، إذ تقرير ذلك بالنظر لا ينهض، وإنما ينهض بالكتاب والسنة).
وواضح من كلام شمس الدين الذهبي أنه فهم من كلام شيخه –أي ابن تيمية – ما لم يقصده، فهو –أي ابن تيمية – قال: إن الآمدي لا يُقرر أصول العقيدة في مصنفاته لغلبة الحيرة والوقف عليه، وليس لأن ذلك يدل على كمال ذهنه على حد قول الذهبي، فلو كان كذلك لقرر الأصول الكبار بأدلة الشرع واستراح من عناء البحث والحيرة والتوقف، لكنه لم يفعل ذلك، فأين كمال ذهنه؟ وقوله –أي الذهبي– أن العقيدة لا ينهض بها إلا الكتاب والسنة، هو كلام صحيح؛ لكن ذلك لا ينفي أن في مقدور العقل أن يُقيم الأدلة على إثبات الخالق وحدوث الكون، لأن الله تعالى فطر الإنسان على الإيمان به، وحثه على استخدام عقله لمعرفته ومعرفة أنبيائه؛ قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) سورة الزمر 38، فكفار قريش كانوا يُقرون بحدوث الكون وأن الله تعالى هو الذي خلقه رغم كفرهم برسالة الإسلام.
وآخرهم المنطقي أفضل الدين الخونجي الشافعي (ت 624هـ)، ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال عند موته: (أموت وما عرفت شيئا، إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر . . . والافتقار وصف سلبي، فأنا أموت وما عرفت شيئا)، فقوله هذا يتضمن اعترافا بخيبة أمله في الفلسفة اليونانية التي برع فيها، وأنها لم تورثه إلا الجهل واليأس والندم.
وإضافة لما قلناه عن هؤلاء، فقد روى المؤرخ عبد الكريم الرافعي القزويني أنه قيل لأحد الفلاسفة- عندما حضرته الوفاة-: كيف وجدت الأمر؟ قال: أُدخلت في الدنيا جاهلا، وعشت فيها متحيرا، وخرجت منها كارها).
ويتبين لنا من هذا المبحث أن علماء أهل السنة الذين ركّزوا – في مقاومتهم للفلسفة اليونانية – على ظاهرة الشك والحيرة عند أهل الفلسفة، أرادوا أن يثبتوا للناس أن تلك الفلسفة لم تورث أصحابها إلا التعاسة والشقاء والحيرة والقلق، فهي كما أفسدت فكرهم وسلوكهم أفسدت قلوبهم.
وختاما لهذا الفصل يتضح منه أن تركيز العلماء السنيين على كشف الانحرافات السلوكية والنفسية للفلاسفة المسلمين، هو وسيلة هامة وفعالة في مقاومتهم للفلسفة اليونانية، فقد أثبتوا بالشواهد التاريخية أن هذه الفلسفة قد أفسدت هؤلاء فكرا وسلوكا ووجدانا، وأبعدتهم عن دينهم، وهذا دليل دامغ على بطلانها هي في ذاتها، لأن الفكرة الصحيحة تُعرف صحتها بذاتها وبآثارها؛ والفكرة الباطلة هي أيضا يُعرف بطلانها بذاتها وبآثارها، ولا شك أن تركيزهم على هذه الوسيلة قد ساهم بقوة في كشف انحرافات هؤلاء للناس وتنفيرهم منهم.