المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي –

أشار ابن تيمية إلى أن الفلاسفة المسلمين ليسوا في درجة واحدة في نفيهم للصفات، فمنهم من نفاها مطلقا كأبي علي بن سينا وأبي نصر الفارابي، فهما على نهج جهم بن صفوان؛ ومنهم من أثبت بعضها، كأبي الوليد بن رشد، وأبي البركات البغدادي (ق:6 هـ).
وأمر ابن رشد يحتاج إلى توضيح، لأن هذا الرجل كان يُبطن عقائد المشائية، ويتظاهر بإثبات بعض الصفات في كتبه الكلامية الموجهة للمسلمين، وينفيها كلية في كتبه الفلسفية الموجهة للفلاسفة.
وهؤلاء النفاة لصفات الله تعالى هم جُهال به، ومتناقضون في موقفهم، فبما أنه لابد لكل موجود من صفات يتصف بها، فهم في الحقيقة لم ينفوا الصفات مطلقا، وإنما نفوا عن الله تعالى صفات الكمال، ووصفوه بصفات الجمادات والمنقوصات والمعدومات؛ ووصفوا أنفسهم بكثير من صفات الكمال التي نفوها عن خالقهم، كالعلم والحكمة، والسمع والبصر.
والمثال الثاني، هو مفهوم العبادة عند الفلاسفة المسلمين المشائين، فقد ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية أن العبادة عند هؤلاء هي التشبّه بالإله على قدر الطاقة، وهذا هو مفهوم لفظ الإله عندهم، فلا يوجد فيه حب لله تعالى، ولا رجاء منه، ولا خشية منه، ولا هو محبوب لذاته تعالى، على ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.
وكلامه هذا صحيح، فهؤلاء الفلاسفة المسلمون جعلوا لأنفسهم شريعة حسب أهوائهم، وفرضوا خيالاتهم ورغباتهم على خالقهم، وتركوا شريعته وراء ظهورهم، باسم العقلانية، وما ذلك من العقل ولا من الحكمة في شيء، وما هي إلا تلبيسات وتغليطات ورعونات نفس.
والمثال الثالث، هو زعم الفلاسفة المشائين أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، وهذا قول معروف عنهم. لكن الغريب في الأمر هو أن ابن رشد زعم أن الفلاسفة المشائين لم يقولوا بذلك، وخطّأ الغزالي في نسبة ذلك إليهم، مع أن الحقيقة خلاف زعمه، وهو المخطئ، ودافع عن الفلاسفة المشائين بالباطل والتغليط، وإخفاء الحقيقة في نفي هؤلاء صفة العلم بالجزئيات عن الله. لأن ابن رشد نفسه ذكر ذلك عن أرسطو في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة.
وهو من أسباب تكفير أهل السنة لهم. وقد حكى عنهم –أي الفلاسفة – الحافظ ابن حجر العسقلاني، أنهم زعموا أن عدم قولهم بذلك يؤدي إلى المحال، وهو تغير علم الله، لأن الجزئيات زمانية تتغيّر بتغير الزمان والأحوال، والعلم تابع لذلك في الثبات والتغيّر، فيلزم ذلك تغيّر علمه، وعلمه قائم بذاته، فيكون محلا للحوادث، وهو محال. ثم ردّ عليهم ابن حجر مبينا أن الله تعالى عالم بما كنا عليه أمس، وبما نحن عليه الآن، وبما سنكون عليه غدا، وليس هذا خبرا عن تغيّر علمه، بل التغيّر جار على أحوالنا نحن، وهو عالم في جميع الأحوال دون تغيّر.
وأقول: إن كلام هؤلاء دليل على جهلهم بالله تعالى، فهم قاسوه على مخلوقاته وطبقوا عليه ما يجري عليهم من أفعال وأحوال، وهذا باطل بلا شك، فهو تعالى ليس كمثله شيء، في ذاته وصفاته وأفعاله لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء و هو السميع البصير)) سورة الشورى 11، و((لم يكن له كفوا أحد)) سورة الإخلاص، وعلمه خارج عن حدود الزمان والمكان التي يخضع لها كل مخلوق. وعلمه تعالى بكل صغيرة وكبيرة، هو من كمال صفاته وألوهيته.
وزعمهم الذي قالوه هو قول على الله بلا علم، ومناقض لعقيدة الإسلام، فقد أخبرنا الله تعالى أنه ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)) سورة غافر 19، و((أنه يعلم الجهر وما يخفى)) سورة الأعلى7، و((إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)) سورة آل عمران 5، و((إن تجهر بالقول فإن الله يعلم السر وأخفى)) سورة طه 7. وهذا الذي زعموه هو من تخيلاتهم وظنونهم، وطامة من طاماتهم، يستحي الإنسان من أن يحكيه، ويضحك منه الغبي قبل الذكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *