المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

وسائل عملية أخرى في مقاومة الفلسفة اليونانية
استخدم السنيون وسائل عملية أخرى في مقاومتهم للفلسفة اليونانية، نذكر منه أربع وسائل، أولها المطاردة والطلب وفيها مثالان، أحدهما أن الفيلسوف علي بن جودي الأندلسي (ت ق: 6هـ) -تلميذ ابن باجة- اشتهر بين الناس باشتغاله بالفلسفة، فاتهموه في دينه وطاردوه للقبض عليه، ففرّ منهم والتحق بجماعة من قطاع الطرق.
والمثال الثاني مفاده أن الطبيب الفيلسوف أحمد بن عتيق الأندلسي المعروف بابن الذهبي (ت ق:6هـ) تعرّض للطلب والمضايقات عندما سخط السلطان الموحدي على صاحبه ابن رشد الحفيد، فطُلب هو الآخر، فهرب واختفى عن الأنظار، لكن محنته لم تدم طويلا، فعندما تراجع السلطان عن موقفه من الفلسفة، عفا عنه وقرّبه منه.
والوسيلة الثانية هي التحذير والتنفير، من ذلك أن الحافظ أبا سعد السمعاني (ت562هـ) روى أنه لما حلّ بمدينة حلب وسمع بها الحديث من أبي الحسن بن أبي جرادة (ت546هـ) وخرج من عنده اعترضه أحد الصالحين وأنكر عليه سماعه الحديث من ذلك الرجل، وقال له مستنكرا: ذاك يُقرأ عليه الحديث! إنه يقول بالنجوم، ويري رأي الأوائل من الفلاسفة، ثم ذكر السمعاني أن ما قاله له هذا الرجل عن ابن أبي جرادة، أكده له رجل حلبي آخر التقى به بدمشق.
والوسيلة الثالثة الضغط والتهديد العسكريين، استخدمهما السلطان نور الدين محمود (ت 567هـ) مع حامي الفلاسفة ركن الدين بن أرسلان (ت 600هـ)، وذلك أن نور الدين لما وسّع ملكه بشمال بلاد الشام، أرسل إلى ركن الدين- ملك بلاد الروم– رسالة مع مبعوثه فيها شروط إقراره على ملكه، منها عليه أن يجدد إسلامه على يد مرسوله، لأن نور الدين لا يعده مؤمنا، ولا يقره على بلاد الإسلام ما لم يجدد إسلامه.
ولا ندري رد فعله تجاه ما اشترطه عليه نور الدين محمود، لأننا لم نعثر عليها في المصادر التي اطلعنا عليها، مع العلم أن هذا الملك كان ملجئا للفلاسفة ومتهما باعتقاد مذهبهم.
والوسيلة الرابعة تحذير السنيين من الانهزامات السياسية والعسكرية جراء انتشار الفلسفة اليونانية بينهم، هذا التحذير قاله ابن قيم الجوزية ليتخذ المسلمون موقفا حازما من تلك الفلسفة ويقاومونها، وأيد كلامه بثلاثة أمثلة، أولها أنه لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم الإلحاد في أواخر المائة الثالثة وأوائل الرابعة، سلّط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخلافة عدة مرات، وتعرّضوا للحجيج وقتلوا منهم كثيرا.
والمثال الثاني، مفاده أنه لما انتشرت الفلسفة والمنطق بين أهل المشرق الإسلامي في القرن السابع الهجري، سلّط الله عليهم التتار، فأبادوا أكثر بلادهم واستولوا عليها؟
والمثال الثالث، أنه لما انتشرت الفلسفة والمنطق بين أهل المغرب، سلّط الله عليهم النصارى، فاستولوا على أكثر بلادهم، وأسروهم رعية لديهم، وواضح من كلام ابن قيم الجوزية أنه يقصد أهل الأندلس الذين تعرّضوا لهجومات النصارى في حركاتهم الاستردادية للأندلس، مما استدعى تدخل الموحدين لنجدتهم، كما هو معروف في التاريخ، ثم انتهي الأمر بضياع الأندلس نهائيا من أيدي المسلمين وعودتها إلى النصارى.
وكلامه هذا صحيح إلى حد كبير، وذلك أن الفلسفة اليونانية إذا غزت مجتمعا إسلاميا فلا شك أنها ستمسخه وتبعده عن دينه، وتفسد سلوكه وتميت فيه حماسة الجهاد، وتُغرقه في الشهوات والشبهات، فيحل به سخط الله سبحانه وتعالى، وتجري عليه سنته الجارية في عقاب الأفراد والجماعات والأمم المنحرفة عن منهاجه.
وختاما لهذا الفصل -أي الثالث- يتبين منه أن المقاومة السنية العملية للفلسفة اليونانية، قد تنوّعت وسائلها، وأدى كل منها دورا عمليا في مقاومتها، لكنها لم تتمكن من القضاء عليها قضاء مبرما.
كما تبين أيضا أن نشاط السنيين العملي في مقاومة تلك الفلسفة ورجالها، كان أقل اتساعا من نشاطهم العلمي الذي ذكرناه في الفصل الثاني، مما يًشير إلى أن نشاط الفلاسفة العملي كان ضعيفا ومحدودا بالمقارنة إلى نشاطهم العلمي الواسع المذكور في الفصل الأول، فجاء رد فعل أهل السنة تجاههم مناسبا لذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *