نصف الطريق نحو الثورة الفرنسية.. نظرية إسحاق نيوتن

تكلمنا في الحلقة السابقة عن فلاسفة القرن السابع عشر ومحاربتهم لجمود الكنيسة، وفي هذه الحلقة نتحدث عن القرن الثامن عشر الشطر الثاني في الحقبة التي تلت جاليليو وحتى الثورة الفرنسية عام 1789م.

ثانياً: القرن الثامن عشر
تميز القرن الثامن عشر بظهور روح الشك العام في كل شيء تقريباً، ومع ذلك فقد ظهرت فلسفات إيجابية متنوعة يدور محورها حول كلمتين، هما في الواقع صنمان استحدثهما الهاربون من نيران الكنيسة، ليحلا محل إلهها المخيف، وهما: “العقل والطبيعة”.
أما العقل فلم يعد مقيداً بأغلال الثنائية الديكارتية، بل بدأ يبحث عن ذاته ويسلك طريقه لكي يتصرف كما لو كان إلهًا بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة، منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء، وما عداه فوهم وخرافة، الوحي يخالف العقل فهو أسطورة كاذبة، والمعجزات لا تتفق ومألوف العقل فهي خرافات بالية، والفداء والصلب والرهبانية.. إلخ، كلها أباطيل مضللة وعقائد مرذولة لأنها لا تتسق مع العقل، والصنم الثاني كان “الطبيعة”.
يقول “سول”: “صار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة”1.
وربما كان أعدى أعداء الكنيسة آنذاك هو “فولتير”، ولنقتطف نماذج من نقده للدين ورجاله من كتابه [القاموس الفلسفي]:
أول ما انتقد “فولتير” العقيدة النصرانية في التثليث وتجسيم الإله والصور المقدسة، وأنحى باللائمة على “بولس” الذي طمس النصرانية وحرفها، ولذلك كان الإيمان بالنصرانية في نظره هو “الاعتقاد بأشياء مستحيلة أو بأشياء تستعصي على الفهم، فالحية تتكلم، والحمار يتحدث، وحوائط أريحا تتساقط بعد سماعها صوت الأبواق.
أما الخطيئة الأولى فيرفضها “فولتير” ويعتبرها إهانة لله واتهاماً له بالبربرية والتناقض، وذلك للتجرؤ على القول بأنه خلق الأجيال البشرية وعذبها لأن أباهم الأول قد أكل فاكهة من حديقته2.
إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله، لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة، ولقد جزعت الكنيسة من هذه الانتقادات والآراء جزعا شديداً، ولعنت “فولتير” وأشياعه وكفرتهم، وحرمت قراءة كتبهم وتعرض “فولتير” للمضايقة والاضطهاد من قبل رجال اللاهوت، حتى إنه قال مخاطباً إنسان ذلك العصر: أنت طائر في قفص محاكم التفتيش، لقد قصت محاكم التفتيش جناحيك3.
وفي إنجلترا طور “جيبون” النقد التاريخي للمسيحية في كتابه (سقوط الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها)، “أما “هيوم” فقد ابتدع مذهب الشك المطلق، الذي كان ثورة نفسية على الإيمان المطلق طوال القرون الماضية.
وجدير بالذكر أن شيوع المذهب العقلي الطبيعي في عصر التنوير قد نتج عنه بالاعتماد على نظرية “نيوتن” مذهبان جديدان على العالم النصراني ينمان عن التخبط والضياع:
الأول: مذهب المؤلهة الربوبيين “دايزم” أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي، وهذا المذهب يمثل فكرة انتقالية لأن الوثبة من إله نصراني إلى عدم وجود إله كانت مستحيلة كما يقول “برنتن”.
وكان من زعماء هذا المذهب “فولتير” و”بوب” ومعهم عدد آخر ممن كانوا يرون ضرورة الإيمان بالله -ولو أمام الجمهور- أما الوحي فأنكروه لأن إثباته يعني صحة تعاليم عدوهم الكنيسة، وليس معنى ذلك أن إيمانهم بالله يمكن أن يسمى إيماناً على الحقيقة، فإن كل عمل هذا الإله في نظرهم هو أنه خلق الكون ثم تركه يدور وفق القوانين المودعة فيه والتي أوضحها “نيوتن”، فهو يشبه صانع الساعة الذي يديرها ثم يدعها تتحرك من تلقاء نفسها، أما الإنسان فقد منحه العقل وتركه وشأنه، فهو وإن كان جزءاً من آلة الكون العظمى، إلا أنه عليه أن يستغل مواهبه ويستخدم عقله بما يتمشى مع قانون الطبيعة.
الثاني: المذهب الإلحادي المادي: يقول فولتير “إذا كان الله غير موجود فلا بد من اختراعه” فالطبيعة تغني عنه، والاعتراف بوجوده هو نوع من الإقرار بصحة دعاوى الكنيسة، فالأولى أن نستبعد وجوده نهائيا إرغاماً لأنف الكنيسة على الأقل.
تلك هي الخطوط العامة في القرن الثامن عشر للصراع بين الكنيسة والدين، على أنه ينبغي أن ننبه إلى أن هذا الصراع كان مقتصراً على الفلاسفة والطبقات المثقفة، ولم يتجاوز ذلك إلى القاعدة الشعبية ويصبح قضية جماهيرية، إلا بعد الثورة الفرنسية التي قامت في أواخر هذا القرن سنة [1789م] وبقيامها رُسم معلم واضح من معالم التاريخ الأوروبي، وافتُتح عصر جديد من الصراع بين الدين واللادين يستحق أن يفرد له فصل مستقل.
تلك كانت صورة حرب الكنيسة مع العلم والتي أثمرت بعد ذلك التفسير المادي للتاريخ والإلحاد وعبادة الطبيعة.
وفي المقال القادم -وبعد أن أنهينا العنصر الأول من أسباب الثورة على الكنيسة- نستعرض بحول الله العنصر الثاني وهو “فساد رجال الدين وفضائح الأديرة الأخلاقية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: المذاهب الاقتصادية الكبرى، جورج سول، ص[51].
2: سلسلة تراث الإنساني، [8/78-80].
3: مقتطفات من سلسة قراءات إنسانية، [8/80-87].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *