المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

عثرتُ على خمس شخصيات من رجال الفلسفة المسلمين قتلوا بتهمة فساد عقائدهم و سلوكياتهم، ذكرنا (أولهم في المقال السابق)، أما الثاني فهو الفيلسوف أحمد بن الطيب السرخسي (ت 286هـ) ثاني الفلاسفة الذي قتل بسبب زندقته، ولقي حتفه على يد الخليفة العباسي المعتضد (ت 289هـ)؛ ونقل المؤرخون أنه قتل مخمورا لفلسفته وخبث معتقده، وقيل في سبب قتله غير ذلك، فقيل قتله لسعاية بعض الناس به إلى الخليفة، وقيل قتله لسوء أخلاقه وحمقه وإعجابه بنفسه، وقيل بل قتله لمدحه الفلاسفة وميله إليهم، وتصويب أفكارهم وحكاية مذهبهم في حضرة الخليفة، الذي كان يقول له: أنت على دينهم، وكيف لا تكون كذلك وأستاذك يعقوب الكندي؟ فاعتقد أن السرخسي هذا فاسد الدين.
وقيل قتله لأنه دعا الخليفة إلى مذهب الفلاسفة والخروج عن الإسلام، فاستحل الخليفة قتله، وقيل بل قتله لاتهامه بالزندقة والنفاق، فروي أنه قال للخليفة: (قد بعتُ كتب الفلسفة والنجوم والكلام، وما عندي سوى كتب الفقه والحديث)، فلما انصرف قال الخليفة: (والله إني أعلم أنه زنديق، فعل ما زعم رياء)، تلك هي أشهر التفسيرات التي قيلت في سبب قتل الخليفة المعتضد للسرخسي، وهي مرتبطة بانحراف سلوكه واعتقاده، ولعلها ساهمت كلها في قتله.
وثالثهم هو المتفلسف الصوفي عبد الله عين القضاة الهمداني (ت 520 هـ)، قال عنه المؤرخ شمس الدين الذهبي أنه رأى له كلاما خبيثا على طريقة الفلاسفة الباطنية، قتله وزير يُعرف بأبي القاسم، وذلك أنه التقط من تصانيف عين القضاة ألفاظا شنيعة ينبو عنها السمع، ويُحتاج إلى مراجعة قائلها فيما أراد بها؛ ثم عمل الوزير محضرا وأخذ فيه خطوط جماعة من العلماء، بإباحة دمه بسبب تلك الألفاظ، فقبض عليه وحمله مقيدا إلى بغداد، ثم أرسله إلى همدان وصلبه بها سنة 520هـ. ويرى الحافظ ابن حجر العسقلاني أن هذا الرجل قُتل مظلوما، قتله الوزير لمجرد أنه صادق أحد أعدائه، وإلا لو قتل بسبب شرعي لنوظر واستتيب.
ورابعهم الفيلسوف شهاب الدين السهروردي المقتول (ت 587هـ) ، أفتى علماء حلب بقتله، كان من بينهم: زين الدين بن جهيل، وأخوه مجد الدين، فوافقهم على فتواهم الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي، ثم جاءه أمر من والده صلاح الدين يأمره بقتله لما بلغه فساد عقيدته وسلوكه، فقتله سنة 587هـ.
وسبب قتله أنه اتهم بالاستهتار والانحلال والتعطيل، واعتقاد مذهب الأوائل، وقد اشتهر عنه ذلك، وأفسد عقائد جماعة من الشباب المسلمين الذين اشتغلوا عليه، وقال عنه الحافظ شمس الدين الذهبي: كان أحمق طياشا منحلا، أحسن العلماء في فتوى قتله وأصابوا. وكان السهروردي يقول: لا بد أن أملك العالم.
وآخرهم -أي الخامس- الفيلسوف القاضي رفيع الدين عبد العزيز الجيلي (ت642 هـ)، كان فاسد العقيدة والسلوك، تولى قضاء مدينتي بعلبك ودمشق، فساءت سيرته في الرعية، فأمر ملك دمشق الصالح إسماعيل بسجنه وقتله، وذكر الذهبي أن هذا الرجل قُتل لسوء سيرته وليس لسوء عقيدته على ما يظهر، لكنه يبدو لي أنه قتُل لسببين رئيسيين، أولهما سوء سيرته وظلمه للرعية، وثانيهما اختلافه مع صديقه الوزير أمين الدين بن غزال، مما جعل كل منهما يسعى للإيقاع بالآخر، فتمكن الوزير من إهلاك الرفيع بالتواطؤ مع الملك إسماعيل.
وأما الفلاسفة الذين استبيحت دماؤهم ولم يُقتلوا، فمنهم المتفلسف الدهري أحمد بن يحيى الراوندي الزنديق والمشهور بابن الراوندي (ت 298هـ)، كان فاسد العقيدة يقول بقدم العالم وإنكار الخالق، ويطعن في القرآن الكريم، طلبه السلطان فاختفى عند ابن لاوي اليهودي، ثم لم يلبث أن مرض ومات، وقد تعجّب المتكلم ابن عقيل البغدادي (ت 513 هـ) من عدم قتله، وقد كان يطعن في القرآن والأنبياء، ومع ذلك فقد روى جماعة أن ابن الرواندي هذا قد تاب عند موته، والله أعلم بحقيقة أمره ومصيره.
والثاني هو الشاعر المتفلسف المتهتك ابن هانئ الأندلسي (ت362هـ)، كان منغمسا في الملذات والمحرمات، مُتهما باعتقاد دين الفلاسفة، طُلب ليُقتل فهرب إلى مدينة القيروان والتحق بالفاطميين.
وثالثهم الأديب الفيلسوف أبو حيان التوحيدي البغدادي (ت بعد: 400هـ)، كان فاسد العقيدة والسلوك، طعن في الشريعة والصحابة، فطلبه الوزير كافي الكفاة ليقتله فهرب منه؛ ثم طلبه الوزير المهلبي فاستتر منه إلى أن مات مختفيا، وفيه وفي أمثاله قال ابن الجوزي: زنادقة العصر الإسلامي ثلاثة: ابن الرواندي، وأبو العلاء المعري، وأبو حيان التوحيدي، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرّحا -أي بالزندقة- وهو لم يُصرح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *