الكشف عن الانحرافات السلوكية لرجال الفلسفة اليونانية

أسباب الانحرافات السلوكية لدى الفلاسفة المسلمين:
نورد في البداية أراء بعض علماء أهل السنة في أسباب الانحرافات السلوكية لدى الفلاسفة المسلمين، ثم بعد ذلك نفصّل فيها بعض الشيء، أولهم المؤرخ الفقيه عبد الرحمن بن الجوزي (ت597هـ) يرى أن سبب انحراف أقوام من الفلاسفة المسلمين عن الإسلام، جهلهم بالفلسفة اليونانية وانهزامهم تجاهها، وذلك أنهم سمعوا أن فلاسفة اليونان كانوا حكماء ينكرون الخالق ويدفعون الشرائع، فصدّقوا بذلك ورفضوا الدين وانحرفت سلوكياتهم؛ وهذا خطأ منهم كبير فإن فلاسفة اليونان يؤمنون بالخالق، ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها.
والثاني هو الرحالة ياقوت الرومي الحموي (ق: 7هـ)، أرجع انحراف الفلاسفة في أفكارهم وسلوكياتهم إلى الإعراض عن نور الشريعة، والاشتغال بظلمات الفلسفة.
وثالثهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، جعل الفلسفة مصدر الضلال والفساد والانحراف، وقال عنها: (هي أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال والزيغ والزندقة، من تلبس بها عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين، ومن تلبس بها قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
ورابعهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، يرى أن الفلسفة هي التي أفسدت أهلها، بما زرعته فيهم من نفاق وأمراض قلبية، لأن الغالب عليها الباطل، بل الكفر الصريح، وطائفة من أتباعها زاد في انحرافهم تقرّبهم لذوي السلطان طمعا فيما عندهم من مال وجاه.
وخامسهم الحافظ الذهبي، أرجع سبب انحراف سلوكيات الفلاسفة ومن على شاكلتهم إلى الإعراض عن الشريعة والتلبس بظلمات الفلسفة وشبهات الأوائل.
وآخرهم المحقق ابن قيم الجوزية، يرى أن الفلسفة هي التي أضلت أكثر الفلاسفة المسلمين، فنكصوا على عقبيهم وتحللوا من الشريعة، وأقبلوا على شهوات البطن والفرج والرياسة، فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) النجم:23، فعلومهم ظنون (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم:28، وإرادتهم هوى نفوسهم، وعلومهم تدعوا إلى إرادتهم، وإرادتهم تدعوا إلى علومهم، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ويضل عن سبيل الله، فهؤلاء تولوا عن القرآن وآثروا عاجل الدنيا، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله -بعد إقامة الحجة عليهم-: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم) النجم:29.
وتعقيبا عليهم نقول: أولا إن هؤلاء العلماء اتفقوا على أن سبب انحراف سلوكيات الفلاسفة المسلمين هو إقبالهم على الفلسفة اليونانية وإعراضهم عن دين الإسلام، وقولهم هذا لا يصدق على كل من درس الفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات، فإن المسلم الملتزم بالشرع قلبا وقالبا، باطنا وظاهرا، لا يضل ولو درس كل فلسفات البشر، بل يزداد إيمانا ويقينا وتمسكا بدينه، ويستفيد من الصحيح الذي قد يجده في تلك الفلسفات.
وثانيا إن ما قاله ابن الجوزي لا يصدق على كل الفلاسفة المسلمين المنحرفين سلوكيا، وإنما يصدق على طائفة منهم أوصلتهم الفلسفة اليونانية إلى الإلحاد في الخالق وإنكار الشرائع، بسبب جهلهم وانهزاميتهم تجاه تلك الفلسفة.
وأما الآخرون فانحرافهم الفكري والسلوكي لم يكن بسبب جهلهم بالفلسفة اليونانية، وإنما كان بسبب علمهم بها وتبنيهم لها، لأن إلهيات -ميتافيزيقا- الفلسفة المشائية هي في ذاتها باطلة تنطوي على ضلالات وانحرافات وشركيات كثيرة، كالقول بقدم العالم، وإنكار صفات الله والنبوات، والقول بالعقول العشرة؛ وكل هذا يتناقض تماما مع دين الإسلام، ومن آمن بتلك الفلسفة فلا شك أنها ستخرجه عن الإسلام، وتقذفه في غياهب الكفر والأوهام والضلالات، وتُفقده العون والتوفيق الإلهيين، ويصبح فريسة للأهواء والشياطين، ويصدق عليه قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تُنسى) طه:124-126.
وثالثا إن بعضهم -أي هؤلاء العلماء- قد أشار إلى أن الفلسفة اليونانية لم تكن فقط سببا في انحرافات سلوكيات الفلاسفة المسلمين، وإنما كانت أيضا سببا في ظلمة قلوبهم وحيرة نفوسهم واضطرابها، فزاد ذلك في شكوكهم وتخبّطهم وجهلهم وقلقهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *