نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-
وخامسا إن قوله بأن العلماء- أي الفلاسفة من أهل البرهان حسب زعمه- هم الذين لهم القدرة على الجمع بين الشريعة والفلسفة -الأرسطية المشائية-، وبين الشريعة والعقل، هو قول لا يصح، وفيه تغليط وتلبيس على القراء، لأن هؤلاء الفلاسفة لا يمكنهم القيام بعمل صحيح موافق للشرع والعقل والعلم، لأنهم –عندما يسعون للقيام بهذه العملية- ينطلقون من منطلقين غير صحيحين، أولهما اتخاذ الفلسفة- اليونانية عامة والأرسطية خاصة – مصدرا للمعرفة ومنطلقا في النظر إلى الشرع والعقل والعلم، وهذا منطلق باطل لا يصح، لأن تلك الفلسفة ليست مصدرا معرفيا يقينيا ولا معيارا صحيحا، لأنها مليئة بالأخطاء والظنون، والأوهام والأساطير، والانحرافات المنهجية. وفلسفة هذا حالها لا يصح أبدا اتخاذها حَكماً ومنطلقا في النظر إلى الشرع والعقل والعلم.
والمنطلق الثاني هو أن هؤلاء الفلاسفة يستخدمون التأويل التحريفي في التعامل مع الشرع، وهذا تأويل باطل مرفوض، ولا يصح استخدامه، لأنه يُحرف النصوص، ويُفسد العملية التأويلية كلية، حتى أن ابن رشد نفسه اعترف أنها عملية تدعو الناس إلى الكفر!!. وبذلك يتبين أن هذه العملية التأويلية المزعومة لا يستطيع القيام بها –على وجهها الصحيح- ابن رشد ولا أصحابه، لأنهم يفتقدون إلى المنطلق الشرعي الصحيح، وليس لديهم الوسيلة الصحيحة الموافقة للشرع واللغة العربية معا، وفاقد الشيء لا يُعطيه.
وأما النموذج الخامس فمفاده أن ابن رشد ادعى أن الأمثال المضروبة في الشرع هي الظاهر منه، للتعبير عن المعاني الباطنة في النص، ضُربت للجمهور من الخطابيين والجدليين، ضربها الله تلطفا منه بعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، لخفاء المعاني التي لا تُعلم إلا بالبرهان، ولا يُدركها إلا أهل البرهان، فضرب الله لهم -أي للجمهور- أمثالها و(أشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال).
وردا عليه أقول: أولا إنه قرر ما ادعاه من دون دليل من الشرع ولا من العقل، وإنما قرره بناء على مذهبيته الأرسطية المشائية، التي يُعبر عنها بحكاية البرهان المزعوم، التي لا يمل من ذكرها وترديدها، والافتخار والتعالي بها. وهو عندما ادعى ذلك أغفل الشرع تماما، وقرر ما يُخالفه، لأن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز آيات كثيرة نوّه فيها بأهمية المثل والأمثال، وقد ضربها لكل الناس عامة وللعلماء خاصة لأنهم أكثر من غيرهم أهلا لتدبرها وتفهمها والانتفاع بها. من ذلك، قوله تعالى: (يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) سورة إبراهيم 25، و(تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون) سورة الحشر 21، و(تلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) سورة العنكبوت 43، ومع وضوح هذه الآيات بأنها موجهة لكل الناس بعوامهم وخواصهم، وبجاهلهم وعالمهم، فإن ابن رشد يزعم أن الأمثال الشرعية ضُربت للجمهور والجدليين ولم تُضرب لأهل البرهان، مع أن الله تعالى قال صراحة: (وما يعقلها إلا العالمون). فعجبا منه، كيف سمح لنفسه بأن يتقدم على الشرع ويُقرر ما يُخالفه، ويقع في هذه المخالفة الفاحشة؟!!
وثانيا إنه -أي ابن رشد- عندما أغفل الشرع وقرر ما يُخالفه، طرح ذلك بطريقة ظاهرها مدحه للشرع، وباطنها هو إغفاله وإبعاده له، فقال: (وأما الأشياء التي لخفائها لا تُعلم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها بعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان … بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال). فهذه طريقة ملتوية من طرق التأويل الرشدي التحريفي للشرع، فالله تعالى أخبرنا أنه ضرب الأمثال للناس عامة، ولأهل العقل والفهم والفكر خاصة، لكن ابن رشد أغفل ذلك وتناساه، وزعم أن تلك الأمثال موجهة للجمهور، بطريقة فيها تظاهر بمدح الشرع عندما زعم بأن الله تلطف بالجمهور في ضربه لتلك الأمثال. فهذا المدح حقيقته إغفال للشرع وإبعاد له، وتحريف له، وتلاعب به، وتوظيف له لخدمة الأرسطية المشائية.
وثالثا إنه -أي ابن رشد- في مدحه المتكرر لحكاية البرهان المزعوم، أغفل أهمية الأمثال، وادعى أنها موجهة للجمهور. وموقفه هذا غير صحيح، وفيه إهمال للأمثال وتقزيم لها، فهي إذا كانت أمثلة صحيحة ودقيقة هادفة، واُستخدمت في مكانها المناسب أصبحت هي نفسها أدلة وبراهين دامغة، لأنها وسيلة من وسائل الإيضاح والاستدلال والبرهنة، تُستخدم في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون، ولا يُستغنى عنها في أي علم من العلوم، لأنه بالمثال يتضح المقال وتُشرح النظريات، فهي تجربة عملية، وعينات تطبيقية يُعبر بها عن الأشياء والحالات والحقائق بأدلة محسوسة، وهذا خلاف ما ذهب إليه ابن رشد الذي ازدرى بالأمثال.