المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

ورابع الفلاسفة الذين استبيحت دماؤهم ولم يُقتلوا: الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن باجة السرقسطي (ت 533هـ)، برع في الطب والفلسفة، واتهم بالقول بتعطيل صفات الله تعالى، فسعى خُصومه في قتله، ولم أعثر له على أخبار أخرى عن هذه القضية، وعن الذين سعوا في قتله، وكيف نجا منهم.
وخامسهم المتفلسف سيف الدين الآمدي، أقرأ المنطق والفلسفة بمصر، فقام عليه جماعة من الفقهاء رموه بالانحلال والتعطيل، وكتبوا محضرا وقّعوا فيه بخطوطهم باستباحة دمه، فخرج – أي الآمدي – من مصر مستخفيا ونزل بمدينة حلب، ثم تحوّل إلى دمشق.
وأشير هنا إلى أن الفيلسوف أبا علي بن سينا (ت 428هـ)، الذي لم يُقتل، رُوي أنه أُحرق ميتا بعد أكثر من 140 سنة من وفاته بأصفهان، وذلك أن سلطانا يُعرف بمحمد بن المظفر نبش قبره وأخرج رفاته وأحرقها في سنة 573 هجرية، و لم أعثر على تفاصيل أخرى عن هذه الحادثة، ويبدو أن أسبابها مذهبية عقيدية.
ويتبين مما ذكرناه أن الفلاسفة الخمسة الذين قتلوا، من بينهم اثنان قُتلوا لسوء عقيدتهما، وهما: صالح بن عبد القدوس، وشهاب الدين السهروردي، والثلاثة الباقون انضمت إلى سوء العقيدة، أسباب شخصية كانت العامل الأساسي في قتلهم، كما هو حال عين القضاة، والرفيع الجيلي.
كما أن اعتماد أهل السنة على إهدار الدم والقتل لمقاومة الفلسفة اليونانية، تمّ أساسا على أيدي بعض حكامهم، ولا شك أن فعلهم هذا قد ساهم في الحد من نفوذ الفلسفة وانتشارها علانية بين الناس؛ لذا وجدنا بعض رجالها يهربون ويختفون، وقد يُعلنون توبتهم خوفا من القتل، أو عن صدق نية، أو بهما معا.
رابعا: استخدام النفي و الإبعاد مع بعض الفلاسفة:
عثرت على حادثتين تمّ فيهما النفي والإبعاد في حق رجلين من أهل الفلسفة، وحادثة أخرى فيها التهديد بالنفي لمن درس علوم الأوائل، الأولى مفادها أن الفيلسوف أبا عبد الله بن سليمان الرعيني الضرير القرطبي (ت 437هـ) أُتهم في دينه، فنُفي من قرطبة والتحق بالجزيرة الخضراء من بلاد الأندلس، فأواه أميرها محمد بن القاسم بن حمود.
والحادثة الثانية مفادها أن الفيلسوف ابن رشد عندما لخّص كتب أرسطو، وجد بعض خُصومه فيها أنه ذكر عن بعض الأقدمين قوله: إن كوكب الزهرة هو أحد الآلهة، فأوصلوا ذلك إلى السلطان الموحدي أبي يوسف يعقوب (ت 595هـ)، فاستدعى ابن رشد أمام الأعيان، وقال له: أهذا خطك؟ قال: لا، فقال السلطان: لعن الله كاتب هذا الخط، وأمر الحاضرين بلعنه؛ ثم أخرجه وأبعده وهو في حالة سيئة، و بعدها أمر –أي السلطان- بإبعاد كل من يشتغل بعلوم الأوائل، و كتب بذلك إلى الأقاليم.
لكن إبعاده لم يستمر طويلا، فعندما انتقل السلطان من قرطبة إلى مراكش غيّر موقفه من الفلسفة وأقبل على دراستها، واستدعى ابن رشد إليه ليعفوا عنه ويُحسن إليه، فالتحق به بمراكش، لنكه سرعان ما مرض وتوفي سنة 594هـ و قيل سنة 595هـ.
والحادثة الثالثة فيها تهديد بالنفي لمن اشتغل بعلوم الأوائل، وذلك أن الملك الأشرف موسى الأيوبي (ت 635هـ) لما ملك مدينة دمشق، نادى مناديه بألا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق والفلسفة وعلوم الأوائل، نُفي من البلد.
وواضح من استخدام بعض أهل السنة للنفي والإبعاد كوسيلة لمقاومة الفلسفة اليونانية، ما كان لها أن تضع حدا نهائيا لها، لكنها ساهمت في تطويقها وإضعافها، وتخويف أهلها والمتعاطفين معها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *