ذراع الكماشة الثاني (الثورة الصناعية في أوروبا)

تحدثنا في المقال السابق عن الآثار الفكرية والاجتماعية التي ترتبت على نظرية دارون، وكان من أهمها قضية التطور المطلق.

ولقد كان يتوقع لقضية التطور المطلق -مجسدةً في نظرية أكاديمية- أن تبقى حبرًا على ورق، أو كلامًا أيَّدته الجماهير بدافع التخلص من ربقة الكنيسة، وسوَّق له اليهود لخدمة أهدافهم، لولا أن أوروبا كانت تمر بفترة “تطور اجتماعي” مما ساهم في قبول فكرة التطور المطلق.
فلقد كان هناك حدث اقتصادي واجتماعي ضخم يهز أركان الحياة هزاً، ولا يقل مفعوله عن مفعول نظرية التطور، ذلك هو الانقلاب الصناعي في أوروبا.
بدأ الانقلاب الصناعي بظهور الآلة، وأحدث انقلاباً كاملاً في الحياة الأوربية، لا يقف عند حدود العلاقات الاقتصادية أو الاجتماعية، وإنما يتعداها إلى كل نواحي الحياة.
ويتلخص التغيير الذي أعقب الثورة الصناعية فيما يلي:
1- نشأة المدن الصناعية
بدأت المدن الصناعية تنشأ، وتجتذب إليها الشباب من الرجال يعملون في المصانع الجديدة، ويسكنون في المدينة على نسق جديد لا يعرفونه من قبل، حيث كانت الحياة الريفية هي الحياة التي عاشت فيها أوروبا طيلة القرون التي مضت، والتي كانت تتسم بالهدوء والاستقرار.
فالشاب أو رب الأسرة يذهب مبكرًا إلى المزرعة ليعمل عند من يعمل من الإقطاعيين أو في حقله الخاص إن كان حرًا، ثم يعود إلى بيته لتناول الطعام والجلوس مع أسرته، ثم ينام مبكراً ليستيقظ مبكرًا للذهاب إلى العمل، ويمارس ما اعتاد عليه طيلة السنوات التي عاشها منذ بدأ العمل بلا أي تغيُّر يذكر.
كذلك كان هناك نوعًا من الترابط بين أهل الريف؛ فتجمعهم روابط العادات والتقاليد والتكاتف عند المصائب، وتقديم المساعدة عند أي ضائقة تمر بأحدهم، وعلى أقل تقدير يجمعهم التعارف الإسمي والشكلي، فإذا جاء رجل من خارج المدينة عرف في الحال أنه غريب، فكان هناك تعارف بين أهل القرية بعضهم لبعض.
وما دام أهل الريف تجمعهم روابط قوية فكان بينهم عادات وتقاليد وأعراف غير قابلة للخرق؛ لأنها من الموروث، فلها نوع قوي من القداسة في قلوب الناس، ومن يخرقها يتعرض -على أقل تقدير- إلى الاستهجان واللوم، وربما النبذ والقطيعة.
لهذا كانت الحياة مستقرة ليس هناك جديد؛ فكل الأيام تشبه بعضها، إلا ما يكون من أعياد أو مناسبات أو لمن يذهب إلى الكنيسة أسبوعيًا.
أما في المدينة فالأمر قد اختلف، فالضوضاء في كل مكان، وصوت الآلات صوت عال مزعج، وساعات العمل قد اختلفت، فالعامل قد يعمل ليلاً ونهارًا، وقد يطرد من العمل فيبحث عن عمل آخر، فأصبح كل يوم في المدينة الصناعية لا يشبه اليوم الذي كان قبله.
والشارع أصبح مزدحمًا بالناس، أصناف مختلفة من الناس، رجال ونساء وأطفال، كزحمة المواسم والأعياد في القرية، ولكن في غير موسم أو عيد، وعلى نحو آخر غير ازدحام القرية، فهنا ناس لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يحفل بعضهم شئون بعض، ولا يلتزمون إزاء بعضهم البعض بتقاليد التعارف والارتباط.
أصبح في كل يوم هناك “تطور”، وفي كل وقت هناك الجديد.
2- خروج المرأة للعمل
كانت تقاليد المجتمع الأوربي وتشريعاته تحجب المرأة عن التعامل الحر في المال والملك، وتمنعها من حرية التصرف المباشر في أي شأن من الشئون.
ولكن في المدن الصناعية وتحت وطأة الاستغلال، ساءت العلاقة بين العمال وأصحاب المصانع، الذين يشغلونهم فوق ما يطيقون ويعطونهم أبخس الأجور، مما يجعل العمال يضربون أو يهددون بالإضراب، فيبحث السادة الجدد عن سلاح مضاد، هو إيجاد جيش احتياطي من العمال الذين يقبلون العمل بنفس الأجر بل بأجر أقل.
وجاءت المرأة التي هجرها عائلها، أو التي لا تجد عائلاً بعد نزوح ألوف الشبان إلى المدينة وترك ما يقابلهن من الفتيات بلا رجال، جاءت فوقعت في المصيدة المنصوبة، جاءت تبحث عن عمل لتعيش، ورضيت بهذا الأجر الدون تحت وطأة الظروف.
ولكن على الرغم من ذلك، أحست المرأة -رغم وطأة الظروف كلها- أنها تتحرر، وأنها قادرة أن تفعل ما يحلو لها مادامت تنفق على نفسها، وكان لهذا الشعور بعد آخر.
وفي المقال القادم إن شاء الله سنكمل كلامنا عن مظاهر التغيير الذي أعقب الثورة الصناعية ونتائجه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *