المدرسة الأفلاطونية الحديثة

تمهيد: نشأة المدرسة الأفلاطونية الحديثة
أصبحت الإسكندرية في عصر الدولة الرومانية مركزًا ومقرًا للفلسفة اليونانيـة الرومانية، وكان من الطبيعي أن يَفِد إليها الفلاسفة اليونانيون والرومانيون والمصريون، وقد أهَّلها لذلك موقعها الممتاز على البحر الأبيض المتوسط.
تأسست الأفلاطونية الحديثة في مدرسة الإسكندرية، وامتدت من سنة 250 ق.م حتى 550م، وهي تُنسَب إلى الفيلسـوف اليوناني أفلاطون مع أنها ظهرت بعد اليونان، وسبب ذلك أنها في جملتها كانت أمْيَل إلى الأخذ عن مذهب أفلاطون والنزوع إلى اتجاهه وفلسفته، فهي وليـدة فلسـفة أفلاطـون ومذهبه، وإن كانت لم تحافظ عليها بل خلطتها بالإلهام الشرقي.
مذهب المدرسة الأفلاطونية الحديثة
والأفلاطونية الجديدة بشكل عام خليط من الأفكار والفلسفات والمعتقدات الوثنية واليهودية والنصرانية والأساطير وغيرها؛ فقد أخذت من أفلاطون خيالاته في عالم المثل، ومن أرسطو تساؤلاته عن المعاني الكلية، ومن الرواقيين[1] السُّمُو الخلقي والترقِّي الروحي، ومن النصرانية تأثيراتها الروحية والخلقية، ومن البوذية مسألة التطهير والتزكية والفناء.
إلا أن ما جاء به أفلوطين من أفكار وآراء حول عملية الفيض أو الصدور عن الله -كما سنبين بإذن الله- يعد جديداً في بابه كما يرى كثير من المفكرين.
وقد أثرت الأفلاطونية الجديدة في تفكير كثير من الفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهم، وأخذوا عنها نظرية الفيض الإلهي، التي تدَّعي أن العالم يجيء صدورًا عن الله في صورة فيض، فمرتبة تفيض عن مرتبة… وهكذا حتى تصل إلى أدنى المراتب.
وأثَّرت الأفلاطونية الجديدة كذلك في التصوف الإسلامي، وخاصة في المتصوفين المتأثرين بالفلسفة، ثم فشا تأثيرها في طرق التصوف، وخاصة فيما يتعلق بعملية التطهير أو التزكية للوصول إلى المعرفة الكاملة أو الإيمان الكامل، وهو سعي الإنسان جاهدًا للوصول إلى المصدر الذي صدر عنه والفناء فيه، وما يحتاج إليه ذلك من مجاهدة شديدة الصلابة لإماتة نوازع الجسد المفطور عليها.
فلاسفة الأفلاطونية الحديثة
“أمونيوس سكاس”، ولد من أبـوين نصرانيين، وتوفي عام 242م، يعُدُّه البعض المؤسس الأول للفلسفة الأفلاطونية الحديثـة، حـاول التوفيق بين فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو.
ويُعدُّ أفلوطين هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الأفلاطونية الحديثة، ويعتبر أهم مجـدد لبنائهـا وأكبر حامل للوائها، ولد أفلوطين سنة205م في مدينة “ليقويوليس” [وهي مدينة أسـيوط حاليًا]، ولما بلغ سن الثامنة والعشرين رحل إلى الإسكندرية وتتلمـذ لـ”أمينـوس سـكاس” سنة 233م، وقد رحل أفلوطين إلى سوريا والعراق ثم إلى روما، حيث استقر بها وأسس مدرسته الفلسفية، وظل بها حتى مات سنة 270م.
عُرِفَ أفلوطين بغزارة العلم، كان يجتمع إليه في مجلسه العلماء والكبراء وتتلمذ له كبار الساسة، أطلق العرب على مذهبه مذهب الإسكندرانيين، وأطلق عليه الشهرستاني “الشيخ اليوناني”.
ثم جاء فرفرويوس (234م-305م)، ونشر كتابات أفلوطين، وهاجم النصرانية بكتابه ضد المسيحيين، وله عدة مؤلفات أخرى.
ثم أتى مبليخوس (توفي عام 330م)، الذي ألف عدة رسائل فلسفية، منها: أسرار مصرية، وهي تفسير فلسفي لطقوس مصر وتعاليمها الدينية.
أما أوغسطين354) م-440م)، القديس الذي ولد في الجزائر من أم نصرانية وأب وثني، قارن بين الأفلاطونية الحديثة وبين النصرانية، وقال بأن النصرانية هي الفلسفة الحقة.
وجاء أبرقلس (410م-485م)، الرجل المدرسي في الأفلاطونية الجديدة، الذي عرض المذهب في مؤلفين: مبادئ اللاهوت ولاهوت أفلاطون.
وفي سنة 529م أغلق الإمبراطور “جوستنيان” مدارس الفلسفة في أثينا، فنــزح بعض رجالها إلى الشرق، وبذلك انتهت الفلسفة اليونانية في بلاد اليونان، واتجهت نحـو الشرق والغرب حيث ترجمت كتب أرسطو إلى السريانية والعربية.
وفي القرن الثـاني عشر ترجمت الكتب العربية إلى اللاتينية، فذاعت واشتهرت كتب أرسطو عند الغربيين، وكانت أساسًا لظهور فلسفة حديثة لدى الغربيين عرفت بـ: فلسفة عصر النهضـة، ولكنهـا فلسفة على نمط جديد، وفي اتجاه آخر جديد.
مؤلفات أفلوطين:
والذي يهمنا الإشارة إليه من أصحاب تلك المدرسة هو صاحب العطاء الأكبر فيها: “أفلوطين”، وقد بدأ أفلوطين كتابة مؤلفاته وهو في سن الخمسين تقريبًا، وكان يعهد إلى تلميـذه” فورفوريوس” مراجعة ما يكتب، وقد ترك أفلوطين مجموعة من الرسائل الفلسفية، لكنها لم تُقدِّم عرضًا منظمـًا ومرتبًا لفلسـفته، بل كانت مجـرد شروح لنصوص أفلاطونية أو أرسطية أو رواقية، أو أجوبة لأسئلة وردت على واحد منها.
وقد جمع فورفوريوس رسائل أستاذه أفلوطين بعد وفاته في ستة أقسام، وفي كل قسم منها تسع رسائل وقدم لها بترجمة له، ولهذا عرفت بالتاسوعيات.
ويستوحي أفلوطين -كما أشرنا- مبادئ فلسفته أساسًا من أفلاطون، لذلك سميت فلسفته بـ”الأفلاطونية المحدثة” وبشكل خاص يطور أفلوطين بعض الأفكار الأساسية التي وردت في بعض المحاورات الأفلاطونية؛ كي يكوِّن تصورًا خاصًا به للوجود والعالم ولمنزلة الإنسان.
وسنبدأ في المقال القادم بإذن الله عرض أهم آراء أفلوطين الفلسفية.
ـــــــــــــــــــــــــــ

-1 مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي ( 333 ق.م – 264 ق.م (

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *