كيف تحولت أماكن العبادة إلى مجالس للفجور؟ فساد رجال الدين وفضائح الأديرة

المفترض في رجال الدين- إن كان ثمة مبرر لوجود رجال دين بمفهوم الوساطة بين الله وبين العباد، وهو اصطلاح لا وجود له في قاموس مصطلحات المسلمين- أن يكونوا قدوة صالحة للمؤمنين بالدين، ونموذجًا يحتذي في الفكر والشعور والسلوك.

ولكن رجال الدين الكنسي في أوروبا كانوا على النقيض من ذلك تماما حيث كانت حياة الغالبية منهم حياة ترف وملذات وشهوات.
يقول “ول ديورانت”1 في فصل بعنوان (أخلاق رجال الدين) من كتاب “قصة الحضارة”:
“لقد كان يسع الكنيسة أن تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع، ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما في أخلاق زمانها من شر وخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة ينعكس عليها ما في سيرة غير رجال الدين من أضداد، فقد كان قس الأبرشية خادمًا ساذجًا، لم يؤت في العادة إلا قسطًا ضئيلا من التعليم، ولكنه غالبًا ما يعيش معيشة يقتدى بها -وإن خالفنا في هذا رأي الراهب الصالح أنطونيو-، لا يعبأ به رجال الفكر، ولكن يرحب به الشعب.
وكان بين الأساقفة ورؤساء الأديرة بعض من يحيون حياة منعمة، ولكن كان منهم كثيرون من الرجال الصالحين، ولعل نصف مجمع الكرادلة كانوا يسلكون مسلك أتقياء المسيحيين الذي يخزي مسلك زملائهم الدنيوي المرح”.
وإن كان “ديورانت” يرسم صورة قاتمة نسبيا عما كان في الأديرة من رذيلة وانخلاع عن الأخلاق والقيم؛ فإن الصورة كانت -أو أصبحت بعد ذلك- أكثر قتامة عن ذي قبل.
وينوه “ديورانت” على ذلك بقوله: (فمن الخطأ الظن أن القساوسة كانوا في روما أكثر فسادًا منهم في غيرها من المدن، ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيسين في كل مدينة تقريبًا من مدن شبه الجزيرة الإيطالية، بل إن الحال في كثير من الأماكن كالبندقية مثلا كانت أسوأ كثيرا منها في روما، فلا عجب والحالة هذه أن يتضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد في كثير من الأماكن أي احترام يظهره الشعب للقسيسين، ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم).
ويقول “أريتينو” ساخرًا من الكنيسة: “والحق إنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على روما مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب صحيح”.
و”جوتشيارديني” يصف روما فيقول: “أما بلاط روما فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحي أبد الدهر، وهي مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم”.
ويكاد “بجيو” يفرغ كل ما عرفه من ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرهم، وجهلهم، وغطرستهم، ويقص “فولينجو” في كتاب “أرلندينو” هذه القصة نفسها.
ويشير “ديورانت” أن ذلك الفساد المستشري لم يكن قاصرا على أديرة الرجال فقط فيقول: “ويبدو أن الراهبات ملائكة الرحمة في هذه الأيام كان لهن نصيب في هذا المرح، وأنهن كن مرحات رشيقات في البندقية بنوع خاص، حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قربًا يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد، وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلدًا من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات”.
ويقول أيضا في موضع آخر: “وظل كرسي البابوية عدة سنين بعد ذلك لا ينال إلا بالرشا أو القتل أو رغبات النساء ذوات المقام السامي والخلق الدنيء وبقيت أسرة بثوفيلاكت أحد كبار الموظفين في قصر البابا ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها.
واستطاعت مريوزا أن تنجح في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية (904-911م)”.
فلا شك أن البذخ والترف الذي كان يتنعم فيه رجال الكنيسة، إذا ما قورنت الحالة المزرية التي كان يعيشها الشعب؛ كانت أحد أسباب تدمير صورة الكنيسة كمكان للتعبد والتبتل بل تدمير مفهوم الدين من الأساس.
ونعرض في المرة القادمة إن شاء الله أحد أسباب الثورة على الكنيسة، والتي عانى منها المسلمون في الأندلس وهي محاكم التفتيش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قصة حضارة، ول ديورانت، [21/83- 86].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *