نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد- نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

وثانيا إن قوله باحتمال مخالفة النص الشرعي للنظر البرهاني-حسب زعمه- هو قول لا يصح تصوّره والقول به لا شرعا ولا عقلا، فإما شرعا فإن الله تعالى وصف كتابه بأنه حق وبرهان، ونور وبيان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لقوله تعالى: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) سورة المائدة: 15، و(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً) سورة النساء: 174، و(الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) سورة هود: 1، و(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) سورة فصلت: 42، وكتاب هذه حاله وصفاته وحقيقته لا يصح أبدا فرض احتمال مخالفته للبرهان الصحيح، وفرضه والقول به هو رد للشرع، وطعن فيه، وتكذيب لله ورسوله.
وأما عقلا فلا يصح في العقل افتراض إمكانية تعارض حقائق العلم الثابتة مع نصوص الشرع الصحيحة والقطعية الدلالة، لأن مصدرهما واحد، هو الله تعالى، فلا يتعارض كتابه المسطور مع كتابه المنظور، فيستحيل أن يحدث تعارض حقيقي بينهما، وإنما قد يحدث توهم للتعارض على مستوى الأفهام وليس على مستوى النصوص والحقائق العلمية، فإذا حدث ذلك فهو إما أنه خطأ في فهم النصوص، وإما أنه اعتماد على نص غير صحيح، وإما أنه خطأ في فهم الظاهرة الطبيعية، وإما أنه اعتماد على نظريات وآراء وظنون لم تثبت صحتها بالدليل العلمي القطعي، وقد تجتمع كل هذه الاحتمالات أو بعضها في سعينا لفهم نصوص الشرع ومظاهر الطبيعة، وبذلك يتبين أنه لا يصح القول أبدا بإمكانية حدوث تعارض حقيقي بين النص الصحيح والحقيقة البرهانية العلمية، لأن النقل الصحيح لا يُخالف العقل الصريح، والعلم الصحيح، وبذلك يسقط مبرر ابن رشد في دعوى التأويل حسب فهمه له.
وثالثا إن منطلقه البرهاني -الذي اعتمد عليه في دعوى التعارض والتأويل- هو منطلق ظني غير قطعي، والمتمثل في الفلسفة اليونانية عامة والأرسطية خاصة ، وهو منطلق لا يصح الاعتماد عليه، والاحتكام إليه، والوثوق به، شرعا ولا عقلا، فأما شرعا فإنه لا يصح أن نجعل تلك الفلسفة البشرية القاصرة الظنية حَكماً على الشرع، ولا مساوية له، ولا مزاحمة له، ولا متقدمة عليه، لأن الإسلام شريعة إلهية يرفض كل المذاهب والعقائد والنحل المخالفة له، و يأمر كل البشرية بالدخول فيه والاستسلام له فكرا وروحا وسلوكا، ومن أبى عليه أن يتحمل مسؤوليته يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة الأنعام: 153، و(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) سورة آل عمران: 19، و(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) سورة آل عمران: 85.
وأما عقلا فلا يصح أن نجعل فلسفة اليونان حَكماً على الشرع، وهي فكر بشري، أخطاؤها كثيرة جدا، وصوابها قليل جدا، مليئة بالأوهام والظنون والخرافات، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة خطأ معظم ما في تلك الفلسفة، وسنقيم الأدلة الصحيحة على ذلك في المقالات القادمة بحول الله تعالى، وعليه فلا يصح أبدا اتخاذ هذه الفلسفة منطلقا ومعيارا وحكما في النظر إلى الشرع، وإنما الصحيح هو عكس ذلك، بأن نجعل الشرع منطلقا وحكما ومعيارا في النظر إلى تلك الفلسفة وفي كل الفكر البشري.
ورابعا إنه واضح من كلامه السابق أن الداعي إلى التأويل هو اعتقاد وجود تعارض بين النظر البرهاني المزعوم، وبعض النصوص الشرعية، الأمر الذي يعني أن التأويل عنده ليس تفسيرا وشرحا، ولا بيانا ومجازا، وإنما هو إخراج لذلك التعارض المُتوهم من تلك النصوص بإخراج اللفظ من دلالته الحقيقية الصحيحة لتوافق ذلك النظر البرهاني المزعوم المأخوذ من الفلسفة اليونانية الظنية، وهذا بلا شك- ليس تأويلا صحيحا شرعا، ولا لغة، ولا عقلا، ولا هو على قانون التأويل العربي الذي ادعاه ابن رشد؛ وإنما هو عملية تحريفية تلفيقية للنصوص الشرعية لتتوافق مع تلك الفلسفة المزعومة.
وخامسا إنه واضح -مما تقدم- أن ابن رشد لجأ إلى التأويل -حسب فهمه له- لأنه نظر إلى الشرع انطلاقا من خلفيته الفلسفية الأرسطية المشائية، فما وافقها من الشرع قبله، وما خالفها منه يجب تأويله لإزالة التعارض الموهوم، وهذا انحراف منهجي كبير وخطير، مرفوض شرعا وعقلا، وقد سبق أن بيناه، فكان يجب عليه -تفاديا لذلك الانحراف- أن ينطلق من الشرع أولا، فيفهمه من داخله ويتخذه منطلقا ومعيارا وحكما في نظره إلى الشرع والفلسفة معا، فلو فعل ذلك ما لجأ أصلا إلى حكاية التأويل والمجاز، وافتراض احتمالات التعارض بين الشرع والنظر البرهاني حسب زعمه، وبما أنه افترض ذلك، فيكون قد قدّم العقل الناقص النسبي القاصر على الشرع المطلق الصحيح، وهذا لا يصح شرعا ولا عقلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *