نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-
والشاهد السادس مفاده أن ابن رشد انتقد المتكلمين في مسلكهم الكلامي، وقال: إنهم اعتقدوا أفكارا في الله تعالى صرفوا فيها كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على اعتقاداتهم، وهي جلها أقاويل مُحدثة، وتأويلات مُبتدعة، لكنه ناقض نفسه عندما نسي أو تناسى أنه هو شخصيا أخذ بمبدأ التأويل التحريفي الذي عند المتكلمين، خاصة المعتزلة، فهم أسبق إلى استخدام ذلك التأويل بحكم ظهورهم المبكر في القرن الثاني الهجري، ثم بعد ذلك تابعهم في تأويل الصفات الإلهية، ووافقهم في بعضها كتأويل آية الاستواء، وحديث النزول.
وانتقدهم أيضا في أنهم أخذوا بتأويلات مُحدثة بدعية، ونسي أو تناسى أنه هو شخصيا وقع في انحراف أخطر من انحراف هؤلاء المتكلمين، عندما نظر إلى الشرع من خلال فلسفة اليونان عامة والأرسطية المشائية خاصة، وأخضع الشرع لها في الإلهيات والطبيعيات والمنطق، فمن الأكثر انحرافا وخطرا، المتكلمون أم ابن رشد وأمثاله؟!
وأما الشاهد السابع فيتمثل في أن ابن رشد بالغ كثيرا في تعظيم الفلاسفة، فهم أهل البرهان واليقين الذين خصهم الله بالعلم والرسوخ فيه، وهم أهل التأويل البرهاني الذي يدل على الحق، ويُزيل تعارض النصوص، لكنه نقض هذه المزاعم عندما قرر أنه (لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يُعتد به).
والشاهد الثامن مفاده أن ابن رشد قال: إن الشريعة حق، والفلسفة حق، والحق لا يُضاد الحق، وهما متطابقتان ومتوافقتان لا مخالفة بينهما، وكل منهما يُكمل الآخر، وهما مصطحبتان بالطبع، لكنه يُناقض نفسه عندما يُقرر أن في الشرع نصوصا متعارضة، وأن ظاهرها مُخالف للفلسفة، والأخذ به على ظاهره كفر، لذا يجب تأويله ليتفق معها، أو إبعاده إذا تعذّر ذلك، وهذا على حساب الشريعة التي يجب تأويلها وليست الفلسفة التي هي الحكم والمنطلق والمعيار عنده، فلو كانتا -أي الشريعة والفلسفة- متطابقتين ومتصاحبتين على حد زعمه، ما حدث هذا التناقض والتحريف للشرع، فدلّ هذا على تناقضه وبطلان زعمه، فالشريعة هي الحق المطلق، والفلسفة فكر بشري فيها الحقائق والأباطيل، والظنون والأساطير، لا يمكن أن تساوي الشرع ولا أن تتقدم عليه، ولا أن تزاحمه، ويجب إخضاعها له وليس العكس كما فعل ابن رشد.
وآخرها- أي الشاهد التاسع- مفاده أن ابن رشد ذكر أن من خصائص الأقاويل الشرعية أنها (تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق)، ومعنى كلامه أن الشرع يتضمن منهج تفسيره وفهمه من داخله، لكن ابن رشد يُناقض نفسه من وجهين، أولهما إنه تبنى مفهوم التأويل بطريقة غير شرعية، فأخذ بمعناه التحريفي الكلامي الفلسفي، ولم يأخذ بمعناه الصحيح الشرعي. وثانيهما إنه لم يجعل الشرع منطلقا ومعيارا وحكما في فهمه له، وفي ضبط فكره وإخضاعه للشرع، وإنما جعل الفلسفة الأرسطية المشائية منطلقه ومعياره في النظر إلى الشرع، والبحث في مختلف المسائل الفلسفية الإلهية والطبيعية والمنطقية. وهذا-بلاشك- تناقض واضح مع ما نقلناه عنه آنفا!!
تلك الشواهد -التي ذكرناها- هي نماذج من تناقضات ابن رشد في موقفه من التأويل حسب فهمه وتطبيقه له، فما هي أسباب وقوعه في ذلك؟ إن السبب الأساسي والعميق فيما وقع فيه ابن رشد، هو منطلقه الفكري المتمثل في الفلسفة الأرسطية المشائية، فهي مصدره المعرفي ومرجعيته الفكرية، فما وافقها قَبِله وما خالفها أوّله، أو أغفله وأهمله، وهذا أمر مارسه ابن رشد في موقفه من الشريعة، مما يعني أن تناقضاته مُتعمدة في الغالب الأعم، وإن كان بعضها قد يقع منه خطأ ونسيانا.