نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

وأشار الشيخ ابن تيمية إلى أن ابن رشد روى أن عليا قال: (حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذب الله ورسوله)، ثم عقّب عليه بقوله: إن ابن رشد حرّف قول علي لفظا ومعنى، لأن عليا قال -فيما رواه عنه البخاري-: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، و هذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال: أتحبون أن يكذب الله ورسوله، فعلم أن الأحاديث التي قالها الله ورسوله، أحاديث لا يطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لا يطيق ذلك كذّب الله ورسوله، وهذا إنما يكون في ما قاله الرسول- صلى الله عليه وسلم- وتكلم به، لا في خلاف ما قاله، ولا في تأويل ما قال خلاف ظاهره، فإن ذكر ذلك لا يوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله، بل يكذب المتأوّل المخالف لما قال الله ورسوله، نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبا لله ورسوله، إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر، فلو أُريد ذلك لكان يقول: أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله، أو أن تُظهروا تكذيب الله ورسوله، فإن المكذب من قال ما يخالف قول الله ورسوله، إما ظاهرا وإما ظاهرا وباطنا، وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله).
وثالثا إن القول الذي ذكره ابن رشد عن علي، يُماثله قول لعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما قال: (ما من رجل يُحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم)، فهذان القولان ليسا كتمانا للحقيقة، ولا اعتقادا بتعارض النصوص معها، ولا تأويلا لها على طريقة ابن رشد التحريفية، ولا يُوجد فيهما ما يُشير إلى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يُظهر للناس خلاف ما يُخفيه عنهم، وإنما هما قولان يندرجان في إطار ما أمر به الشرع باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، في الدعوة إلى الله تعالى، على بصيرة وعلم، وحكمة ونباهة وفطنة، لقوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة النحل: 125، و(قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة يوسف: 108، فهذا هو المنهج الصحيح السليم الموافق للشرع والعقل في التعامل مع الناس، فلا إخفاء فيه، ولا تغليط، ولا تدليس عليهم، وإنما هو دعوة إلى استخدام الحكمة في مخاطبة الناس، ومراعاة قدراتهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية.
علما بأنه -أي ابن رشد- اعترف بأمر خطير جدا، ذكر فيه أن تأويله الذي يدعو إليه يتضمن شيئا من إبطال لظاهر من الشرع وإثبات المؤوّل، فهذا اعتراف صريح منه بأن تأويله يُحرف النص، وهو أمر ينكره الشرع الحكيم ولم يقل به علي ولا ابن مسعود -رضي الله عنهما- وما أراده من قوليهما، اللذين هما -في الحقيقة- استنبطا منهجا دعويا في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ونحن لا ننكر بأنه يُوجد تباين واضح بين ما يفهمه العامي من الشرع، وبين ما يفهمه العالم منه، فهذا الأخير -أي العالم- لاشك أنه أكثر عمقا، واتساعا، وشمولية، وإدراكا لحكمة الشرع ومراميه من العامي؛ لكن هذا التباين لا يقوم على التعارض بين النصوص الشرعية، ولا بينها وبين بدائه العقول وحقائق الطبيعة، ولا يقوم أيضا على التأويل التحريفي الذي يتبناه ابن رشد ويُدافع عنه و يدعوا إليه.
ورابعا إن دعوته إلى إخفاء كتب الفلاسفة عن الجمهور وأهل العلم من غير الفلاسفة، هي اعتراف منه بأنها مخالفة للشرع، لأنها لو كانت صحيحة موافقة له، ما دعا إلى إخفائها، وإنما يدعوا إلى نشرها بين الناس والتباهي بأنها تتفق مع الشرع وهي في خدمته، وبما أنه لم يفعل ذلك فما قلناه هو الصحيح، ويُؤكده أن ابن رشد نفسه اعترف بذلك عندما قرر أن المصرّح بتأويلات الفلاسفة -المدونة في كتبهم- لغير (أهلها كافر، لمكان دعائه الناس إلى الكفر)، فهذا اعتراف خطير منه، بأن تأويلات الفلاسفة -التي دعا إلى إخفائها- هي كفر يجب كتمانها عن غير أهلها، فلو كانت حقا موافقة للشرع والعقل والعلم ما كانت كفرا، وما أمر بإخفائها حتى أنه كفّر من يُظهرها من المؤولين!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *