المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

رفض المنطق الأرسطي المشائي
رفض أئمة علماء أهل السنة المنطق الأرسطي المشائي ضمن رفضهم لفلسفة اليونان ومقاومتهم لها، فهجروه وزهدوا فيه، لقصوره ولكنته وعجزه، وعدم ضروريته، واختلاطه بالفلسفة، فكان هذا موقفهم منه منذ القرن الثالث الهجري إلى زمن أبي حامد الغزالي المُتوفّى سنة 505هـ، حيث انقسموا حياله إلى رافض مقاوم له، وإلى مدافع داعية إليه.
فبخصوص المدافعين عن المنطق المشائي الداعين إليه، فسنذكر منهم ثمانية علماء، أولهم الفقيه أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري (ت:456 هـ)، له كتاب التقريب لحدود المنطق، حثّ فيه على الاعتناء بالمنطق، وقدّمه على العلوم، وقال عن كتابه هذا: هو كتاب جليل المنفعة عظيم الفائدة، لا غنى لطالب الحقائق عنه، فمن أراد أن يقف على علم الحقائق فليقرأه.
والثاني هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، أدخل المنطق اليوناني في علم أصول الفقه، فألحق بكتابه المستصفى في علم الأصول، مقدمة منطقية، قال عنها: (هي مقدمة العلوم كلها، ومن لم يحط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا). وكلامه هذا يُشبه كلام ابن حزم السابق ذكره.
وثالثهم المؤرخ شمس الدين بن خلكان (ت:681هـ)، مدح المنطق المشائي وأثنى على كتاب التقريب لحدود المنطق لأبي محمد بن حزم الظاهري، وعدّ المعارضين للمنطق من المخرفين.
ورابعهم الفقيه تاج الدين السُبكي الشافعي الدمشقي (ق:8هـ)، برر إقبال المتأخرين على المنطق اليوناني، ومخالفتهم لموقف السلف منه، بدعوى أن الصحابة لم يكونوا في حاجة إلى المنطق اليوناني، بما لهم من عقول راجحة، وبما أفاضه الله عليهم من نور النبوة العاصم للفكر من الخطأ. ثم قال: إن أكثر العلوم التي ندأب نحن في طلبها هي حاصلة لهم بأصل الخلقة، كاللغة والنحو، وأصول الفقه، وقد سار على نهجهم السلف من أهل القرون الثلاثة الأولى، ثم عندما كثُر أهل البدع والضلالات احتاج المتأخرون من أهل السنة، إلى المنطق للرد على هؤلاء.
وقوله هذا فيه مغالطات وتمويهات ولا يصح من عدة أوجه، أولها إن العقول الفطرية الراجحة توجد عند كل الأسوياء، يولدون بها وتنمو فيهم تدريجيا، وليست خاصة بالصحابة دون غيرهم من البشر؛ ونور الوحي الذي ذكره ليس مقتصرا عليهم، فإن الله تعالى قد ضمن ذلك لكل من آمن بدين الإسلام والتزم بمنهاجه، لقوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) الأنعام:11.
والثاني أن جمعه بين اللغة وأصول الفقه ليس صحيحا، فإذا كانت اللغة قد تحصل بالسليقة، فإن علم أصول الفقه لا يحصل بذلك، فقد تعلمه الصحابة من دين الإسلام، ولم يتعلمونه بالسليقة، وقد تعلم مشركو العرب اللغة العربية بالسليقة، ولم يتعلموا أصول الفقه بالسليقة ولا سمعوا به قبل الإسلام.
والثالث أن تبريره لموقف المتأخرين في إقبالهم على المنطق، بدعوى الحاجة إليه للرد على المبتدعة، هو تبرير غير صحيح، لأن القرآن الكريم ردّ على الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والدهريين، من دون استخدام للمنطق اليوناني. وقد أمر الله تعالى نبيه أن يجاهد الكفار بالقرآن، في قوله: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) الفرقان:52. وفي القرن الثالث الهجري، ردّ علماء السلف على المعتزلة والجهمية والزنادقة، ولم يستخدموا منطق اليونان، ولهم في ذلك مصنفات معروفة، جمعوا فيها بين منطقي النقل الصحيح والعقل الصريح، من ذلك: كتاب الرد على الزنادقة لأحمد بن حنبل، وخلق أفعال العباد للبخاري، والرد على بشر المريسي للدارمي، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وكتاب التوحيد لابن خزيمة، وهذه المصنفات وصلتنا، وهي منشورة ومتداولة بين أهل العلم وشاهدة على ما نقوله.
كما أن أهل الحديث استمروا في رفض ذلك المنطق حتى بعد انتشاره في القرن الخامس الهجري وما بعده، وكان لهم إنتاج علمي جيد في علوم الشريعة وعلم الكلام، منهم: أبو الحسن الكرجي، وأبو الحسين بن أبي يعلى، وعبد الوهاب بن الحنبلي، وأبو الخير العمراني اليمني، وابن تيمية، والذهبي، وابن قيم الجوزية، وابن كثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *