خامسا: هل كان الفلاسفة المسلمون سلبيين تجاه الفلسفة اليونانية؟:
تبين لي مما ذكرناه عن الفلاسفة المسلمين أن معظمهم كانوا سلبيين انهزاميين تجاه الفلسفة اليونانية، وعلى رأسهم كبار الفلاسفة المشائين، وهم: يعقوب الكندي، وأبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا، وابن رشد الحفيد، ويؤيد ذلك الشواهد الآتية، أولها إن معظم مصنفات كبار الفلاسفة المسلمين، كانت تصب في تيار خدمة الفلسفة اليونانية شرحا وتلخيصا، دعوة ودفاعا، وقد ذكرنا ذلك بشيء من التفصيل في الفصل الأول.
وثانيها إنني لم أعثر لكبار الفلاسفة المشائين على مصنفات نقدية هدمية عميقة شاملة ومتخصصة، في نقد الفلسفة اليونانية من حيث طبيعياتها وإلهياتها ومنطقها؛ في حين وجدتُ لهم عشرات المصنفات –وربما مئات- في شرحها والدفاع عنها والتعصب لها.
وثالثها إنهم أهملوا الوحي- القرآن الكريم والسنة النبوية – والعقل الصريح في معظم مصنفاتهم، واكتفوا –في غالب الأحيان – بالشرح والتلخيص، والتقليد والتعصب لأرسطو وفلسفته وشيعته، وقد ضربنا على ذلك عشرات الأمثلة في الفصل الثاني.
ورابعها إن هناك أقوالا لعلماء سنيين تؤيد ما قلته عن سلبية هؤلاء وانهزاميتهم وتبعيتهم لفلسفة اليونان، من خلال أعمالهم الفكرية، فمن ذلك ما ذكره ابن تيمية، من أن عمل المسلمين في المنطق اليوناني تركّز أساسا في تهذيبه وتنقيحه وتوضيحه وتتميمه، وقال تاج الدين السبكي (ت ق: 8هـ) أن أكثر فلاسفة المسلمين كانوا على رأي أرسطو، ونحن نعلم أن معظم أفكاره في الإلهيات باطلة شرعا وعقلا، فهم تابعوه في ضلالاته، وقال عبد الرحمن بن خلدون: إن الفلاسفة المسلمين اتبعوا أرسطو في رأيه (حذو النعل بالنعل، إلا في القليل).
وأما ما يُذكر لكبار الفلاسفة المسلمين من انتقادات للفلسفة اليونانية، فهي قليلة جدا بالمقارنة مع ما كتبوه في شرحها والدعوة إليها والدفاع عنها والتعصب لها والانتماء إليها، وقد قال عنهم ابن خلدون أنهم اتبعوا أرسطو (حذو النعل بالنعل إلا في القليل)، وأشار ابن تيمية إلى أن ابن رشد خالف أرسطو وابن سينا ولم يقل بقولهما في نفي علم الله تعالى بالجزئيات، لكن لا ننس أن ابن رشد قال ذلك في كتبه الكلامية الموجهة لجمهور المسلمين، وقال بخلافه في كتبه الفلسفية، فنفى صفة العلم وغيرها من الصفات، وهذا أمر سبق أن تناولناه، ولعل الشيخ ابن تيمية لم يطلع على كتبه الفلسفية، لأنها ربما لم تصله، والشيخ نفسه قد ذكر أن ابن رشد كان من الباطنية، ويُظهر خلاف ما يُبطن بسبب تعصبه لأرسطو وشيعته، وهذا أمر سبق أن ذكرناه.
وذكر صديق القنوجي أن ابن سينا جمع في كتابه الشفاء علوم الفلسفة السبعة، لكنه في كتابه الإشارة خالف أرسطو في كثير من المسائل، قال فيها برأيه، لكن انتقادات هؤلاء للفلسفة اليونانية هي انتقادات جزئية لا تُخرجهم عن أصول الفلسفة المشائية، فهي اجتهادات داخل المذهب لخدمته لا لانتقاده وتقويضه، ولا تجعل منهم فلاسفة أحرارا مجددين مبدعين، فلو كانوا كذلك ما انتسبوا لتلك الفلسفة، ولأسسوا لأنفسهم مذاهب فلسفية جديدة، ولثاروا على فلسفة اليونان الوهمية البالية، ولرفعوا من شأن دينهم ولا خالفوه فكرا وسلوكا.
وأما بالنسبة لأسباب سلبية هؤلاء وانهزاميتهم تجاه فلسفة اليونان، فهي كثيرة ومتداخلة، يبدو لي أن أهمها ثلاثة أسباب، أولها ضعف إيمانهم بدين الإسلام، أوجد فيهم فراغا روحيا وانهزامية نفسية، ملأتهما فلسفة اليونان، وثانيها ضعف احتكامهم للكتاب والسنة حرمهم من الانتفاع بنورهما وعلمهما، وأوقعهم في الاعتماد على عقولهم القاصرة وحواسهم الناقصة، وعلى ظنونهم وأهوائهم من جهة، وعلى أوهام فلاسفة اليونان وضلالاتهم من جهة أخرى.
وثالثها تقليدهم وتعصبهم لفلاسفة اليونان عامة ولأرسطو وشيعته خاصة، فحرمهم ذلك استقلالية الفكر، وأبعدهم عن النقل الصحيح والعقل الصريح، والعلم الصحيح، وأضعف فيهم الشجاعة الأدبية والروح العلمية النقدية الهدمية المبدعة، وأغرقهم في المتناقضات والانحرافات الفكرية والسلوكية.