النفس والمادة عند أفلوطين

المرتبة الثالثة: النفس الكلية
وهي في المرتبة التالية للعقل، وهي آخر الموجودات في عالم المجردات عنده، وبها تتحقـق الصلة والرابطة بين العالم المحسوس والعالم غير المحسـوس أو العـالم الإلهي، وهي مشغولة بتأمل الأول [الواحد] كمصدر أو علة لها، وبتـدبير الثـاني [العقل] كامتداد لتأملها الأول، وتفيض هذه النفس فتصدر عنهـا نفـوس الكواكـب ونفوس البشر ونفوس الأجسام.
وهي في جملتها لها قوة التدبير والإيجاد فيما تحتها نيابة عـن العقـل فوقها؛ فالعقل موكل عن الأول بدوره في الإيجاد لما تحته والتأثير فيه، ولأنها نائبة فقـط فـي إيجاد هذا العالم المحسوس وتدبيره؛ فرض أفلوطين على هذا العالم الشكر للعقل دونهـا على نعمة الوجود.
وأما النفس الإنسانية؛ فإنها إحدى النفوس الجزئية المنبثقة عـن الـنفس الكليـة والموزعة على الكائنـات الموجـودة فيما أسماه أفلوطين بـ”الطبيعة” أي العالم المادي، وهذه النفوس الجزئية هي أدنى مراتب العالم الروحاني أو عالم العقل.
يمكن القول إذًا أن النفس هي صورة الروح منعكسة في عالم الزمان والمكان، اللذان بدورهما هما انعكاس لصورة الأبدية التي تقبع فيها الروح، ولولا طبيعة الاستمرارية التي تشكل الزمان وصورة امتداد الأثير اللامتناهي الذي يشكل المكان؛ لما تمكنت النفس من استشراق معنى الأبدية الأصل.
لذلك حتى الزمان والمكان بالمطلق هما خادمان لمعنى أسمى وليسا هدفاً بحد ذاتهما، فما بالك الأشياء والأحداث التي تقع فيهما.
المرتبة الرابعة: المادة
المادة تأتـي في آخر مراتب الوجود، وهي أصل هذا العالم المشاهد، وهو ما تحت النفس الكلية، ووجوده كشعاع لها فقط؛ إذ المادة التي هي أصله تحد مـن الحقيقـة فيه لأنها نقص، بينما العالم المجرد أو العالم المعنوي كله حقائق محضة، فهـذا العـالم ليست له حقيقة ذاتية، وبالتالـي ليس له كمال ذاتي، وما فيه من حقيقة أو كمال صـورة لعالم المجردات أو شعاع لضوئه.
ويرى أفلوطين أن وحدة الوجود بين أجزاء العالم ومراتبه المختلفة تتم بالتعقـل الذي يرد الكثرة إلى الوحدة، والمتعدد إلى الواحد، وما دامت وحدة العالم تـتم بالتأمـل والفكر؛ فإن الوجود الحقيقي للأشياء لا يكون شيئًا سوى هذا التأمل.
وعلى هذا؛ فإن أفلوطين يقرر بأن الموجود الأدنى [الطبيعة] إنما يحصـل علـى صورة الأعلى [النفس] بتأمله له فيتحد به، وهكذا يكون ما بين النفس والعقل ثم ما بـين العقل والواحد المطلق الذي لا توجد فيه كثرة ما.
وهكذا تتكون من الأول والعقل والنفس الكلية والمادة سلسلة الموجودات كلها عند أفلوطين، وبصدور العقل عن الأول، وصدور النفس الكلية عن العقل، واتصـال الـنفس الكلية بالعالم المحسوس، وصدور المادة التي هي أصل العالم المحسوس عن هذه الـنفس الكلية؛ يصور أفلوطين “وحدة الوجود” عنده، كما يصور بها نشأة الكثـرة المطلقـة عـن الواحد من كل وجه.
وخلاصة القول: إن الأفكار الأفلاطونية الحديثة اشتركت في بنائها: الأفلاطونيـة والأرسطوطاليسية، وبعبارة أخرى: إن أفلوطين مزج في مذهبه بين هـذه المـدارس الإغريقية الثلاث.
علاقة النفس الإنسانية بالواحد الأول:
يرى أفلوطين أن النفس الإنسانية يلحقها من النقائص والشرور بمقدار اتصـالها بالمادة وتعلقها بها، ويمكن أن تكمل النفس بالخلاص مـن علائـق المـادة ولواحقهـا، والوسيلة الوحيدة التي تستعين بها النفس في هذا الخلاص وفي صـعودها فـي مراتـب الرقي حتى تصل إلى الواحد الأول هي الفلسفة.
والنفس لا تصل إلى الواحد عن طريـق التفكير العقلي؛ لأن الأول غير معين، وغير المعـين لا يصـلح أن يكـون موضـوعًا للإدراك، وإنما تصل النفس إلى الأول بنوع من الإدراك لا يمكن وصفه ولا يقـال إنـه معرفـة، إنـه اتحـاد تـام وفناء كلي، وهذه الحال -كما يقول أفلوطين- لا يستطيع أن يعرفها إلا من ذاقها، وهم قلة من الناس، وذكر أفلوطين أنه نفسه لم يصل إليها ولـم يبلغها في حياته على طولها إلا أربع مرات فقط!!
وإذا كان أفلوطين يرى أن الفلسفة هـي السـبيل الوحيـد لوصول النفس إلى الواحد والاستغراق كلية فيه والفناء في ذاته؛ فإنّه ينكـر صـلاحية الحدس أو المنهج العقلي لبلوغ هذه الغاية، وفي هذا تناقض واضطراب؛ لأن الفلسفة تعتمد على العقل وقضاياه والاستدلال ومقدماته.
إلا أنه ما ينبغي التنبيه عليه أن أفلوطين قد جمع في فلسفته وخاصة في الجانب الإلهي طائفة من المتناقضـات، التي نشأت عن اعتماده على التمثيل والتخيل والتعبير الإشاري أو الاستعاري أكثر مـن اعتماده على الحقيقة والواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *