المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

وسادس علماء السنة الذين حرموا الاشتغال بالمنطق الحافظ جلال الدين السيوطي، حرّم الاشتغال بالمنطق، وقال أنه فن خبيث، وصنف في تحريمه كتابا سماه: القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق. ونص على أن المنطق يجر إلى الفلسفة والزندقة.
وبالإضافة إلى هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم، فقد رُوي أن الفقهاء بالأندلس كانوا يمنعون أهل العلم من الاشتغال بالمنطق، حتى أن المناطقة كانوا يُعبرون عن المنطق بغير اسمه، فيسمونه المفعل تحرزا من صولة الفقهاء.
وذكر تقي الدين بن تيمية أنه رأى فتوى فيها خطوط جماعة من العلماء المتأخرين من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريم المنطق وعقوبة أهله، لكنه لم يحدد لنا أسماء هؤلاء المفتين، ولا بلدانهم، ولا زمانهم بالضبط.
وأما فقهاء الحنابلة فمنهم من حرّم الاشتغال بالمنطق، كابن تيمية وابن القيم، وأكثرهم قالوا بكراهيته ما لم يُؤد إلى فساد العقيدة، وإلا فيُحرم الاشتغال به.
وكان من آثار انقسام السنيين في موقفهم من منطق اليونان، أن ظهرت لهم مصنفات في المنطق تُعبر عن الاتجاهين، فالمؤيدون ألفوا كتبا كثيرة في المنطق، دعوة وتعريفا، شرحا وتلخيصا، منها: معيار العلم في المنطق، ومحك النظر، والقسطاس المستقيم، وهي كلها لأبي حامد الغزالي.
ومنها أيضا: الجمل في مختصر نهاية الأمل في المنطق، لأفضل الدين الخونجي الشافعي (ت 624 هـ)، وكتاب تهذيب النطق والكلام لسعد الدين التفتازاني (ت 792هـ)، وقد شُرح كتابه هذا عدة مرات. ويُلاحظ على تصنيفات هؤلاء المؤيدين للمنطق أنه يغلب عليها التهذيب والتنقيح، والتوضيح والإكمال.
وأما المعارضون للمنطق المشائي فقد استخدموا للرد عليه طريقين، أولهما الرد المجمل، وثانيهما الرد المفصل، فالمجمل كالذي فعله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، عندما رد على المناطقة في زعمهم أن المنطق هو معيار للعلم وقانونه، ومن لم يُحط به فلا ثقة له بمعلوم، وبيّن أن هذا زعم باطل، بدليل أن علوم الإسلام لا تفتقر إليه، وأن كل إنسان صحيح الذهن يستغني عنه، وأن أئمة الإسلام برعوا في شتى العلوم، ولم يرفعوا بالمنطق رأسا.
وأما الرد المفصل، فتمثّل في تصنيف الكتب للرد على المنطق وأهله، منها: كتاب الرد على المنطقيين، ونقض المنطق، وهما لابن تيمية، ولمحمد بن الوزير الصنعاني (ت 848 هـ) كتاب ترجيح أساليب القرآن لأهل الإيمان على أساليب اليونان. وللحافظ جلال الدين السيوطي رسالة القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق، وكتاب صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، وكتاب نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان، اختصره من كتاب الرد على المنطقيين لابن تيمية.
وقد تبين من خلال البحث عن مصنفات المنطق عند السنيين -خلال العصر الإسلامي- أن ما صنّفوه في الرد العلمي المفصل على المنطق الصوري ورجاله قليل جدا، بالمقارنة إلى ما صنّفوه في الدعوة للمنطق والتعريف به والدفاع عنه، وقد أحصي في كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، أكثر من 32 كتابا في المنطق المشائي، صنفه السنيون المؤيدون للمنطق، في حين لا يكاد يعرف من المصنفات في نقد المنطق إلا القليل النادر، أشهرها ما صنفه ابن تيمية وابن الوزير، والسيوطي.
وختاما لهذا المبحث نشير هنا إلى أمرين هامين، أولهما إن هناك -على ما يبدو- ثلاثة أسباب رئيسية كانت سببا في إقبال السنيين المتأخرين على المنطق المشائي، الأول تأثرهم بكبار المتكلمين السنيين الذين مدحوا المنطق، وحثوا عليه وبالغوا في تعظيمه، كابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، والشهرستاني، والسيف الآمدي.
والسبب الثاني هو مبالغة المتكلمين المتأخرين في خلط الفلسفة بعلم الكلام، مما هيأ نفوس أهل العلم لتقبل المنطق المشائي، وإضعاف مقاومتهم له. والسبب الثالث هو ضعف تأثير السنيين المعارضين للمنطق في أهل العلم، وقلة إنتاجهم النقدي للمنطق، الأمر الذي أوجد نقصا فكريا في مجال نقد الفلسفة اليونانية ومنطقها.
والأمر الثاني هو أن رفض أهل السنة للمنطق الأرسطي المشائي وتصديهم له، كان وسيلة هامة وفعالة في مقاومتهم للفلسفة اليونانية، لكن انقسامهم في موقفهم منه -منذ القرن السادس الهجري وما بعده- أضعفهم كثيرا، ومكن للمنطق من الانتشار بينهم بشكل كبير، وأصبح له من بينهم أتباع ومدافعون كثيرون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *