تحريف الشريعة

سبق أن تحدثنا في المقال السابق عن التحريف الذي قام به رجال الدين في الشريعة النصرانية فأصبحت ديانة وثنية، واستعرضنا البدع المستحدثة في الدين النصراني، واستفضنا في العنصر الأول ألا وهو رجال الدين.
واليوم نتعرض لأحد أهم تلك البدع التي كان لها أثر كبير في الثورة على الكنيسة.

الرهبانية
ما الرهبانية التي عرفها الناس منذ القدم إلا نتاج للتصور السلبي الخاطئ الذي نشأ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود، وهي أن الله قد اختار الإنسان للقيام بالمهمة العظمى “الخلافة في الأرض”، وأناط به مسؤولية عمرانها بالصلاح والخير.
ومع أن الرهبانية بدعة مشتركة بين شرائع عديدة، إلا أننا نلاحظ أن للرهبانية النصرانية ظروفًا وأسبابًا بارزة تضافرت على إيجادها وتنميتها، حتى أصبحت أبرز مظاهر الدين الكنسي على مرّ العصور.

أسباب الرهبانية
1-عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة:
وهي إحدى التعاليم الكبرى في النصرانية المحرفة، وموجزها أن آدم عليه الصلاة والسلام أكل من الشجرة “شجرة المعرفة!”؛ فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال تلك الخطيئة أحقابًا متطاولة؛ حتى أنزل الله ابنه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- ليصلب فداءً للنوع الإنساني؛ وليبين للناس طريق الخلاص من هذه الخطيئة؛ فأصبح لزامًا على الإنسان أن يقتل نفسه لمنحها الخلاص، كما جاء في إنجيل متى [16/26]: (من أراد أن يخلص نفسه يهلكها).
ولما كانت المرأة -حسب رواية سِفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة؛ فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات، وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لا سيما الشهوة الجنسية، واليوم يحاول الغرب أن يعيد -حسب زعمه- للمرأة حقوقها، فأخطأ الطريق مرة أخرى، وأدى به الغلو إلى إخراج المرأة عن فطرتها وغايتها التي خلقت لها.
ومن ناحية أخرى تولد عن الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تُظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والترهب فيها.
2-رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة، والأبيقورية الرومانية الغارقة في الشهوات:
فكان من أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام مع مرور الزمن، وكرد فعل منهم للضغط المادي عليهم، أن غلوا واشتطُّوا حتى خرجوا عن حدود ما يأمرهم به الوحي وتمليه الفطرة السوية، ونسبوا إلى المسيح أنه أمر الغني أن يتجرد من أمواله، ويحمل الصليب ويتبعه، وقال: (مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله) (إنجيلا مرقص [10/22] ، ومتى [19/25])، وأنه أوصى تلاميذه قائلا: (لا تقتنوا ذهبًا ولا فضةً ولا نحاسًا في مناطقكم، ولا مزودًا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصًا) (إنجيل متى [10/10-11]، ومثله لوقا [9/4-10]).
3- الأثر الذي خلفته الفلسفات ووثنيات التهربية القانطة:
الفلسفة الرواقية والتي تنم عن التذمر والتهرب من الحياة، وتقوم على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، هذا إلى جانب الوثنيات القاتلة التي تقهر الجسد على حساب الروح، وتقدس اليأس والتقشف، كالبوذية والبرهمية.
ولما كان “بولس: شاؤول اليهودي” مطلعًا على هذه الفلسفات والوثنيات متأثرًا بآرائها؛ فقد أدخلها في صلب النصارية، ثم توارثها الأتباع من بعده، ومن اقتباسات “بولس” النظرة المتشائمة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.
وقد أثرت هذه الاعتقادات وما اقتبسته النصرانية منها في رواج الرهبانية وشيوعها في القرون التي تلت المسيح عليه السلام.
يقول صاحب “معالم تاريخ الإنسانية”: (كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية، وفي الفترة التي ألمَّ فيها الشقاء الاجتماعي باليهود، قبل زمان يسوع الناصري، كانت طائفة من النساك الأسينيين تعيش منعزلة في مجتمعات، قد وهبت نفسها لحياة تقشفية من الوحدة والطهر وإنكار الذات، كذلك أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات من رجال اعتزلوا غمرة الجهود العامة والتجارة في العالم؛ ليعيشوا عيشة التقشف والتأمل).
(ونشأت في زمن مبكر جدًا من تاريخ المسيحية حركة مشابهة لهذه؛ تتنكب ما يغمر حياة الناس اليومية من منافسة وحمية وشدائد، وفي مصر على وجه الخصوص خرجت حشود كبيرة من الرجال والنساء إلى الصحراء، وهناك عاشوا عيشة عزلة تامة، قوامها الصلوات والتأملات، وظلوا يعيشون في فقر مدقع في الكهوف أو تحت الصخور على الصدقات، التي تقذفها إليهم الصدفة من أولئك الرجال الذين يتأثرون بقداستهم) (معالم تاريخ الإنسانية، [3/730-732]).

4- الأوضاع الاجتماعية القاسية:
كان المجتمع الروماني مجتمعًا طبقيًا ظالمًا، تكدح فيه قطاعات ومجموعات كبيرة لصالح أفراد قلائل، وكان سكان المستعمرات خاصة يعانون البؤس وشظف العيش إلى جانب الظلم والطغيان، فقنط كثيرون من الحياة، ورأوا أن خير وسيلة للتخلص من خدمة الأسياد والحصول على العيش ولو كفافًا هو دخول الأديرة، حيث ينفق عليهم من تبرعات المحسنين وأوقاف الكنيسة، ذكر صاحب كتاب “قصة الحضارة [14/15]” أن (الآلاف من الشباب كانوا يدخلون الأديرة فرارًا من الخدمة العسكرية التي فرضها الرومان).
تلك كانت أهم الأسباب البارزة التي أدت إلى نشوء الرهبانية وتظافرت على إيجادها وتنميتها، وسنتطرق بإذن الله تعالى في الحلقة المقبلة إلى شروط الراهبانية، والنتائج الخطيرة التي أدت إليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *