المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

ذكر ابن تيمية، أن أصحاب رسائل إخوان الصفا، يضلون الناس بما ذكروه فيها من منافع دنيوية طبيعية ورياضية، من صناعات وحراثة وحياكة وخياطة.
وذكر أيضا أن هؤلاء ينسبون رسائلهم لجعفر بن محمد الصادق، ليجعلوها من ميراث أهل البيت، وهذا من أفضح الكذب وأوضحه، لأن رسائلهم هذه صنفوها في القرن الرابع الهجري زمن دولة بني بويه، وجعفر الصادق توفي سنة 148هـ، قبل تأليف رسائلهم بنحو 200 سنة، هذا زيادة على جهلهم وضلالهم.
والثاني هو كتاب الشفاء للفيلسوف أبي علي بن سينا (ت428هـ)، جمع فيه فنون الفلسفة السبعة، قال عنه المؤرخ محمد اليافعي المكي (ت768 هـ): طالعتُ كتاب الشفاء، فوجدته أجدر بقلب الفاء قافا، بمعنى أن يصبح عنوانه: كتاب الشقاء، لا كتاب الشفاء، لاشتماله على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين.
وهو أيضا -أي كتاب الشفاء- متهم بإضلال طائفة من المتفلسفين المسلمين، كأبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، وصدقة بن الحسين البغدادي (ت573هـ)، فالأول قال عنه منتقدوه: أمرضه الشفاء. والثاني قرأ كتاب الشفاء ففسدت عقيدته، وانتابه الشك والحيرة، وأصبح ينكر بعث الأجساد، ويعترض على القدر.
ويتضح مما قلناه عن تحذير أهل السنة من مطالعة كتب الفلسفة اليونانية ورجالها، أن فعلهم هذا قد ساهم في صرف كثير من أهل العلم عن مطالعة تلك الكتب، وإن أقبل عليها بعضهم فإنما قرأها -في الغالب- بحذر ووعي يعصمانه من الانحراف.

سادسا: التصدي للفلاسفة في سعيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة
تصدى بعض علماء أهل السنة للفلاسفة المسلمين في سعيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة اليونانية والمزج بينهما، متخذين من ذلك وسيلة لمقاومتهم وكشف مسعاهم المشبوه. وذكروا أن الذين تزعموا تيار الجمع بين الشريعة والفلسفة، هم من مشاهير الفلاسفة والطوائف المتفلسفة، كابن سينا، وابن رشد، وابن طفيل، والقرامطة، والإسماعيلية، وإخوان الصفا.
فبخصوص ابن سينا، قال عنه الفقيه أبو عبد الله المازري المغربي (ت ق:6هـ): إنه رد أصول الدين إلى الفلسفة، وتلطّف في ذلك جهده، حتى حقق ما لم يحققه غيره. وقال عنه ابن القيم: إنه قرّب مذهب المشائين الملاحدة إلى دين الإسلام، وغاية ما حققه أن قرّبه من أقوال الجهمية الغلاة نفاه الصفات، لكنه لم يُوفق في تقريبه -أي مذهب المشائين- من الشريعة، فهيهات أن يجتمع الضدان، ويتفق النقيضان، فشريعة الإسلام في طرف، ومذهب هؤلاء في طرف آخر.
وقال عنه ابن تيمية: إن ابن سينا أدخل في إلهيات اليونان بعض ما عرفه من دين الإسلام، وكثيرا من أراء مبتدعة المسلمين، كالمعتزلة والرافضة، ثم سعى للجمع بين كل ذلك. كما أنه تكلم في الغيبيات وخوارق الآيات بطريقة غير شرعية، وأرجعها إلى أسباب القوى الفلكية والنفسية والطبيعية، فانتهى به الأمر إلى إنكار النبوة، والملائكة والمعجزات، وأخرجها عن مفهومها الشرعي. وأخذ أيضا أسماء وردت في الشرع ووضع لها مسميات مخالفة لمسمياتها الشرعية، ثم تظاهر بأنه يثبت تلك المسميات الشرعية، كزعمه أن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ، فموّه بذلك على الجاهل، وجعله يعتقد أنه -أي ابن سينا- يقصد بذلك ما قصده الشرع.
ويرى -أي ابن تيمية- أن عمل ابن سينا في جمعه وتخليطه بين الشريعة والفلسفة اليونانية هو: تدليس وتلبيس، وأنه أخذ مخ الفلسفة وكساه بلحاء الشريعة، مما أدى إلى كثرة المتناقضات في فلسفته المشائية المعدلة، وإلى تضليل كثير من أهل العلم في المطالب الإيمانية العالية، والمقاصد القرآنية السامية، وإخراجهم عن حقيقة العلم والإيمان، فصاروا بذلك كثيرا ما لا يسمعون ولا يعقلون، ويسفسطون في العقليات ويُقرمطون في السمعيات. بمعنى أنهم يستخدمون السفسطة الجدلية في المسائل العقلية، ويستعملون التأويل الباطني في القضايا الشرعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *