رجوعا إلى اللسان العربي المبين (1) ذ. يونس الناصري

إن الحديث عن اللغة العربية لأمر تطمئن إليه النفوس وتهش له القلوب ويفرح به كل مؤمن يستشعر حكمة الله تعالى في جعل آخر كتبه ودياناته بلسان عربي مبين، وهو أيضا أمر تقشعر له جلود الحساد المتعصبين وتدمى له قلوبهم؛ لما يحملونه في أفئدتهم من غل وغيظ على هذه اللغة الشريفة العظيمة التي فاقت لهجاتهم ولغاتهم من حيث المفردات والتراكيب والأساليب البيانية.
والله إن القلم ليعجز عن إثبات ما يكنه القلب من ود وتبجيل عظيمين لهذا اللسان الجزل الرصين المتين الذي نزل به الوحيان (القرآن والسنة الصحيحة)، والذي مُيِّزَ به سيدُ ولد آدم أجمعين صلوات الله وسلامه عليه.
فالحديث عن اللغة العربية لا يعني التعصب الأعمى لهذا اللسان من منطلق قومي خبيث يروم تفريق المسلمين على اختلاف ألسنتهم وأجناسهم كما قال شاعرهم المارق:
هبوني عيدا يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنم
بل تعظيمنا وحبنا وإجلالنا للغة الضاد نابع من إيمان راسخ بهذا الدين الشريف الجليل الذي نزل إلينا بتلك اللغة الكاملة لفظا ومعنى، كما وصفها حافظ إبراهيم متحدثا بلسانها:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
ولحكمة بالغة -علمناها أو لم نعلمها- لم ينزل القرآن الكريم بلغة أخرى غير لغة قريش، التي جمعت في ثناياها أجمل وأبين وأفصح ما في اللهجات العربية المنتشرة في ربوع الجزيرة العربية، إكراما لرسولنا الحبيب وللسانه الذي نشأ عليه ورضع لبانه وشب عليه ومات عليه، تاركا إياه لكل مسلم مؤمن يحب الله ورسوله مع ما يقتضيه ذلك من حب للغة كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن إكرام اللغة العربية واجب على كل مسلم وجوبا لازما ضروريا، خصوصا في زماننا هذا الذي مُسخت فيه فِطَرُ المتعلمين والدارسين الباحثين، وعُظِّمَتْ فيه لغاتُ الأعاجم وتشدق بها المتشدقون، وإن كانوا لا يلمون بها إلماما تاما، فتجد من يعرف من الإنجليزية عباراتِ التحية وتعريفَ نفسِه ومكانَ ازديادِه وغيرَ ذلك مما يعلق بأذهان أطفال الرياض، تجده يفتخر بذلك ويلوك تلك العبارات الرطينة بلسانه في الحمام والسوق وبين جدران المدارس.
وفي مقابل ذلك يخجل الإنسان من ذكر عبارات عربية فصيحة وسط الناس في الأماكن العمومية، تهوينا لشأنها وجهلا بها. فأمر اللغة العربية قد استفحل ونواقيسُ خطرها تدق، وملامحُ ضعفها لا تخفى على ناظر، وضرورةُ إحيائها حتم لازم.
لم تعد اللغة العربية حكرا على العرب الخُلَّصِ دون غيرهم، وإنما هي في ملك كل مؤمن راغب في فهم كتاب ربه وسنة نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ولا أدل على ذلك من أن جُلَّ من خدموا اللغة العربية وبينوا أسرارها العجيبة كلمةً وتراكيبَ ونظمًا وفقها وهلم جرا، كانوا من أصول أعجمية غير عربية؛ كسيبويه مثلا وغيره كثير، فقد كان داعي الإيمان بالإسلام هو الدافع إلى تعلم اللغة العربية وفهمها وتمثل أساليبها وتأمل إعجازها ثم إلى خدمتها وإعلاء شأنها والافتخار بها في الأندية والمجالس.
لقد كانت لغةُ الضاد وجهةَ كل أجنبي دخل الإسلام وأحبه، ومطمحَ كل من أراد طلب العلم الشرعي واللغوي، وكان طالب العلم الدنيوي أيضا كالطب والفلك والرياضيات من اليهود والنصارى وغيرهم يتعلم العربية ويتقنها لفظا وكتابة وقراءة ليدرس تلك العلوم على أيدي علماء الإسلام في ما مضى من زمان العزة والشموخ والسؤدد والريادة.
ودارت عجلة الزمن، فاضطررنا -بسبب تخلينا عن لساننا وديننا- إلى تعلم لغة الآخر والدراسة على يديه، إلا أن فرق بيننا وبينهم، هو أن علماءنا قديما كانوا يعلِّمون كلَّ من حضر لوجه الله تعالى، ثم لتثقيف المتعلمين وإعدادهم لخدمة الإسلام والمسلمين، أما المستشرقون والمنصرون ممن تتلمذنا على أيديهم، فإنهم كانوا يدسون السم في العسل، بترويج ثقافتهم الإلحادية وتضمينها في ما يُتَعَلَّمُ من علوم، وإن كانت دنيوية تجريبية؛ إذ إن غايتهم هي القضاء على الإسلام، بتزهيد هؤلاء الطلبة في دينهم ولغتهم، ثم ترسيخ لغتهم الأجنبية بثقافتها وحمولتها الإلحادية في أذهان الطلبة المسلمين غير المتشبثين بدينهم ولغتهم وتراثهم العريق.
إن وجوب فهم شريعتنا والعمل بمقتضياتها في حلنا وتَرحالنا، لا بد له من فهم عميق للغة تلك الشريعة وتصاريفها ونحوها وفقهها وبلاغتها، كما لابد له من دفاع مستميت عنها ضد خصومها المستغربين الحاقدين الطاعنين في إمكانياتها الواسعة وعلو كعبها وقدرتها على أن تسع كل المجالات والتخصصات.
لابد لنا من الرجوع إلى ينابيعها الصافية التي لم تُصَب بكدرة العجمة والركاكة، للاطلاع على حقيقتها البيانية الإعجازية، وهو ما سيمكننا من تأمل كتاب الله وتدبره حق التدبر، فليس متقن اللغة العربية والملِّمُّ بخصائصها وروعة بيانها، كالشادي المبتدئ فيها، وهما ينظران في القرآن الكريم فهما وعملا.
يقول ابن فارس رحمه الله تعالى: “ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعَيَّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة (الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها؛ ص:3).
وأكد عالم آخر “أن أحق العلوم بالتقديم معرفة علم العربية، والنظر في اصطلاحاتها الأدبية التي نزل على وفقها الكتاب، ووردت بها السنن والآداب، وهي إلى علم الشريعة أبلغ، وهو علم وردت بالندب إليه السنن والأخبار، وتظاهرت بالثناء عليه متواترات الآثار، وأجمع على فضله هداة السلف وأئمتهم، وأردفهم بتفضيله سراة الخلف وقادتهم، حتى حصل بشرفه العلم ضروريا وتبث اليقين بجماله حسيا وشرعيا، وعقليا ونقليا” (الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية، لنجم الدين الصرصري الحنبلي (716هـ) ص:215ـ216).
ثم إن اللغة العربية تزيد في هيبة الرجل وترفع من شأنه، خصوصا إذا كانت نيته في ذلك خالصة لله وحده، وقد أثر عن عمر رضي الله عنه قوله: “تعلموا العربية، فإنها تزيد المروءة” (الجامع للخطيب البغدادي:2/225).
وقال شعبة رحمه الله: “تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في العقل” (أمالي الزجاجي:ص19).
وقال عبد الملك بن مروان: “أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوء به النائبة، فيستعير الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان” (نوادر الأدب لمحمد المكي بن الحسين:ص63.)
وقولة أبي منصور الثعالبي أشهر من نار على علم، وذلك لما قال: “من أحب الله أحب رسوله المصطفى، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب” (فقه اللغة وسر العربية:ص5).
فالمسألة شرعية دينية أكثر منها تعصب للسان عربي دون أمازيغي أو فرنسي.. فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
أم أن الجهل بالشيء يورث محاربته؟
ومن جهل شيئا عاداه.
وللبحث بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *