نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

ولا شك أن ما زعمه ابن رشد باطل جملة وتفصيلا، شرعا وعقلا، لأن الله تعالى ذكر مرارا –في كتابه العزيز– أنه أرسل محمدا بدين الحق ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويُعلمهم الكتاب والحكمة، وأنه أتم للمسلمين دينهم، في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) سورة المائدة: 3، وقد أمضى رسول الله –عليه الصلاة والسلام- 23 سنة في الدعوة والجهاد، والتربية والتعليم، ثم بعد هذا يزعم ابن رشد أن النبي-صلى الله عليه وسلم- تُوفي ولم يُبين لأمته الموقف الصحيح من ذلك النوع الظاهر من النصوص الشرعية، فذهب وتركها على كفر في موقفها منه، حتى جاء المشاؤون كابن رشد وإخوانه، فعرفوا ذلك، ونجّوا أنفسهم من ذلك الكفر وتركوا معظم الأمة على الكفر الذي تركهم عليه رسول الله!! فهذا الزعم الباطل المضحك هو الذي قاله ابن رشد، وهو –بلا شك- بهتان كبير لا دليل له عليه، إلا التعصب وإتباع الظن والهوى.
وأما عبارة: أهل البرهان، التي أكثر ابن رشد من ترديدها، فهي عبارة جوفاء، فيها تغليط وتلبيس على القراء، أطلقها على نفسه وأمثاله من الفلاسفة الأرسطيين، وتسلط بها على مخالفيه، مع أن الحقيقة خلاف ذلك تماما؛ فهو وأصحابه من أكثر الناس تحريفا وتلفيقا، ينطلقون من خلفياتهم المذهبية المتعصبة في الحكم على مخالفيهم، فيسمون مخالفيهم بالعامة والجمهور، وأهل الجدل، ويسمون أنفسهم بأهل البرهان واليقين، والحقيقة خلاف ذلك، فهم من أبعد الناس عن البرهان واليقين، ومن أكثرهم خطأ وضلالا وانحرافا عن الشرع والعقل معا.
وأما النموذج الثالث -من التأويل الرشدي- فمفاده أن ابن رشد قسم أهل التأويل إلى قسمين، الأول يخص أهل التأويل الجدلي، ويمثله المتكلمون، وهم جدليون بالطبع تأويلاتهم جمهورية، وثانيهما يتعلق بأهل التأويل البرهاني اليقيني، ويمثله الفلاسفة، وهم برهانيون بالطبع، من أهل صناعة الحكمة.
وقوله هذا فيه إغفال وتغليط، وتلبيس على القراء، لأنه أولا حصر أهل التأويل في طائفتين، هما: المتكلمون والفلاسفة، وأغفل أهل التأويل الشرعي الصحيح، وبناء على ذلك فإن أهل التأويل ثلاثة أصناف وليس اثنين، الصنف الأول يمثله أهل التأويل الشرعي، وهم الذين يُمارسون التأويل بمعنى التفسير والشرح والبيان، ومصدرهم في ذلك: الشرع أولا، ثم اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ثانيا، ثم إجماع الصحابة والسلف الصالح ثالثا، ثم ما قرره العقل الصريح رابعا، ثم ما أثبته العلم الصحيح خامسا.
وأما الصنف الثاني فيمثله أهل التأويل التحريفي الكلامي، ومصدر تأويلاتهم خليط من الفلسفة والشرع وأفكارهم التي ابتدعوها، وهم يأخذون بالتأويل وفق معناه التحريفي، لا بمعناه الشرعي اللغوي الصحيح، لذا نفوا الأفعال والصفات الإلهية، والصنف الثالث هم أهل التأويل التحريفي التلفيقي، فلا يأخذون بالمعنى الشرعي للتأويل، ولا بمعناه الصحيح في اللغة، ومصدر تأويلاتهم هو الفلسفة اليونانية عامة، والأرسطية المشائية خاصة.
وثانيا إن زعمه بأن تأويلات الفلاسفة هي تأويلات برهانية يقينية، وتأويلات المتكلمين هي تأويلات جمهورية –من الجمهور-، هو زعم باطل فيه تغليط وتلبيس على القراء، لأن كلا من تأويل الطائفتين هو تأويل تحريفي مخالف للتأويل الشرعي الصحيح، والطائفتان يجمعهما منطلق واحد في موقفهما من صفات الله تعالى، لذا وجدنا ابن رشد يقول بتأويل آية الاستواء، وحديث النزول، وحديث الجارية السوداء، إتباعا للمتكلمين الذين سبقوه إلى تأويل ذلك.
والنموذج الرابع مفاده أن ابن رشد يعتقد أن على أهل البرهان –أي الفلاسفة- أن لا يُصرّحوا بتأويلاتهم للجمهور وأهل الجدل –أي المتكلمون-، ولا يحل لهم الإفصاح بها إلى هؤلاء، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: (حدّثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله)، ودعا أيضا إلى إخفاء المصنفات التي سماها: الكتب البرهانية عن الجمهور، وعدم تدوين تأويلات الفلاسفة في الكتب الخطابية والجدلية الموجهة للجمهور والمتكلمين، ومن صرّح منهم -أي من الفلاسفة- بتأويلات البرهانيين لغير أهلها فهو كافر، لدعوته الناس إلى الكفر، وحثهم أيضا على السعي لإقرار الشرع على ظاهره، وعدم التصريح للجمهور بعملية الجمع التي قاموا بها للجمع بين الشرع والفلسفة، لأن التصريح بنتائجها للجمهور لا يصح، لأنهم ليس لديهم براهين تلك النتائج، وإنما هي عند العلماء -أي الفلاسفة- الذين جمعوا بين الشرع والعقل.
وردا عليه أقول: إن دعوته الفلاسفة إلى إخفاء تأويلاتهم عن غيرهم من العوام وأهل العلم، هي دعوة لا مبرر لها شرعا ولا عقلا، لأنهم لو كانوا حقا من أهل العلم، وما عندهم حق وبرهان، ما أخفوا علمهم عن الناس، علما بأن الشرع يأمر بالحق ويحث على العلم، وينهى عن كتمانه، ويُحذر من إتباع الظنون والأهواء، فلماذا هو يدعو إلى إخفاء تأويلات الفلاسفة، ويُحرم الناس منها بما أنها حق وبرهان ويقين، على حد زعم ابن رشد؟ وهل التأويلات البرهانية اليقينية تُخفى؟ وها هو كتاب الله الحق المبين، والبرهان المنير، لماذا لم يأمر الله تعالى رسوله بإخفائه عن عامة الناس؟!
وبما أن ابن رشد أصر على دعوته في إخفاء تأويلات الفلاسفة وكتمانها عن غيرهم من الناس، فإن هذا دليل قوي على أن تأويلاتهم مخالفة للشرع والعقل والعلم، لأن ما خالف الشرع فهو باطل، وما خالفه فهو بالضرورة مخالف للعقل والعلم معا، وإلا لماذا يخاف من إظهارها؟ فلو كانت برهانا ويقينا ما دعا إلى إخفائها، ولو كانت برهانا ما خالفت الشرع أبدا، وبما أنها خالفته فهي تأويلات باطلة بالضرورة.
وثانيا إن احتجاجه بقول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- هو احتجاج لا يصح وفي غير محله، وقد تعقّبه شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ورد عليه، مبينا أنه -أي ابن رشد- حمل ذلك القول على علوم الباطنية الفلاسفة نُفاة الصفات، وهذا تحريف ظاهر لقول علي، لأن قوله: (حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذب الله ورسوله)، دليل على أن ذلك مما أخبر به النبي-عليه الصلاة والسلام- بمعنى أنه لم يُخفه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *