قضايا و إجابات عن مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية

ثالثا: لماذا قاوم أهل السنة الفلسفة اليونانية:
يُعد كل ما ذكرناه في هذا البحث هو إجابة شاملة ومفصلة عن تساؤلنا: لماذا قاوم أهل السنة الفلسفة اليونانية؟، غير أنه يمكننا تلخيص أهم ما ذكرناه في نقاط مركزة كإجابة عن تساؤلنا السابق، أولها أنها جاءت بأباطيل وضلالات كثيرة يرفضها الإسلام جملة وتفصيلا، كالقول بقدم العالم، وإنكار الملائكة والنبوات، وهذا يفرض على كل مسلم صادق الإيمان أن يتصدى لها ويقاومها بكل ما يستطيع.
وثانيها أنها فلسفة طرحت نفسها بديلا عن الإسلام في العقائد والتصورات الأساسية عن الحياة والإنسان والكون، وهذا يؤدي إلى إبعاد الإسلام عن الحياة وإحلال فلسفة اليونان محله، وهذا أمر خطير على الدين والمسلمين لا يجوز السكوت عنه، ولا يقبله مسلم.
وثالثها أنها أفسدت أفكار وسلوكيات معظم الفلاسفة المسلمين، وهذه جناية كبرى في حق هؤلاء وفي حق أمتهم التي خسرتهم، وهذا كله يجعل التصدي لها أمرا ضروريا قبل أن يستفحل أمرها، ويمتد تأثيرها إلى مختلف فئات المجتمع الإسلامي.
رابعا: قضية انحراف الفلاسفة المسلمين وقتل بعضهم:
لهذا المبحث جانبان، هما: انحراف السلوك، والقتل، فبخصوص انحراف الفلاسفة المسلمين، فإن انحرافهم لم يكن في درجة واحدة، فهو بحسب بعدهم عن الدين وقربهم منه، مع أنه ليس كل من درس الفلسفة اليونانية هو منحرف عن الدين، وإنما المنحرف هو من آمن بأفكارها وانتسب إليها، وانسلخ عن دين الإسلام؛ لذا وجدنا طائفة من أهل العلم اشتغلوا بتلك الفلسفة ولم تنحرف سلوكياتهم، وكانوا صالحين متدينين، كالوزير الفقيه محمد بن المظفر المروزي (ت530 هـ)، والقاضي أحمد بن عبد الله البهوتي (ت 544هـ)، والقاضي الطبيب الشمس بن الخليل الجواب (ت 637هـ)، وشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية.
ولا يغيب عن بالنا أن انتقادات علماء أهل السنة للفلاسفة المسلمين لم تكن قائمة على الهوى والظن والكذب عليهم، وإنما كانت قائمة على أساس شرعي عقلي علمي، وقد سبق أن أثبتنا ذلك فيما سبق، وقد كانت نظرتهم لهم ولفلسفتهم موضوعية إلى حد كبير، جعلت بعضهم يعترف بما لهؤلاء من محاسن وقدرات عقلية، وصواب يُنتفع به، إتباعا لقوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) سورة الشعراء 183.
فالمحدث الأديب ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ)، استعان بالفلسفة ورجالها عندما رد على المتكلمين من المعتزلة والجهمية، في ردهم لحديث صحيح، وهو حديث الذباب، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فاغمسوه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء)، فقال إننا إذا رجعنا إلى الفلسفة وجدنا أن الذباب بمنزلة الحية، وقد قال عنها الأطباء أن لحمها شفاء من سمها، وقالوا: إن الذباب الذي إذا خلّط بالأثمد –كحل- وسُحق معه، ثم اكتحل به زاد ذلك في نور البصر، وشدّ مراكز الشعر من الأجفان وحافات الجفون، وقد حكى أرسطو عن قوم أنهم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون.
وعندما ترجم الحافظ شمس الدين الذهبي للطبيب علي بن رضوان المصري (ت450هـ)، سماه: الفيلسوف الباهر، وقال عنه: كان مسلما موحدا، وقال عن الفخر الرازي: العلامة الفيلسوف، كان يتوقد ذكاء، وأما ابن تيمية فقد اعترف بأن في الفلسفة اليونانية ما هو صحيح معروف بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك، وهو علم صحيح لا يُدفع، كاستدارة الفلك، فهي مستديرة وليست مضلعة على حد قول بعض المتكلمين، ثم قال: إن من بدع بعض المتكلمين أنهم يردون ما قاله الفلاسفة من علم صحيح معقول موافق للشرع، ثم أكد على أنه يجب قبول الحق الذي مع الفلاسفة وعدم رده ما دام يوافق الكتاب والسنة، وقال أيضا أن في فلسفة اليونان حق وباطل، كما هو الحال عند غيرهم من الشعوب.
وعندما قارن ابن تيمية بين المتكلمين والفلاسفة، قال: إن كلام المتكلمة في الإلهيات فيه الصواب والخطأ، لكنهم أعلم بها وأكثر صوابا وأسد قولا من المتفلسفة، الذين هم بدورهم أحذق في الطبيعيات والرياضيات ممن لم يعرفها كمعرفتهم، مع ما فيها من الخطأ.
وفي مسألة الصفات قسّم ابن تيمية الفلاسفة المسلمين إلى طائفتين، الأولى منحرفة، على رأسها الفارابي وابن سينا، وقولهما هو النفي المحض لصفات الله تعالى، وهو قول جهم بن صفوان، والطائفة الثانية مقتصدة، كأبي البركات البغدادي (ت ق: 6هـ)، وابن رشد الحفيد، في قولهما من الإثبات ما هو خير من قول جهم بن صفوان، فالمشهور عنهما إثبات الصفات الحسنى وأحكامها؛ تأثرا بأهل السنة وعلماء الحديث، فجاء كلامهما أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول، من كلام ابن سينا المتأثر بالمعتزلة والشيعة، والميزان في قرب هؤلاء من الحق وبعدهم عنه، هو بحسب قربهم من دين الإسلام وبعدهم عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *