كيف دخلت الفلسفة العقل الإسلامي؟

  بعد أن بينا في المقالات السابقة بصورة مختصرة: ما هي المذاهب الفلسفية اليونانية، واستعرضنا أهم الأفكار التي جاء بها الفلاسفة، نكون بذلك قد أنهينا المرحلة الأولى من تلك السلسلة. وما يجب أن يسترعي انتباهنا هو: كيف دخلت الفلسفة إلى الفكر الإسلامي؟ كيف تحولت تلك الأفكار المعقدة من اللغة اللاتينية إلى العربية؟ كيف تلقفتها العقول الإسلامية ومن الذي تلقفها؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بـالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لمـا عُرِّبـَت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبا منها). وقد ذكر السيوطي قصة دخول الفلسفة اليونانية إلى المسلمين، فقال: (إن يحيى بـن خالد البرمكي -وهو من الفرس الذين كانت لهم صولة ودولة في حكم العباسيين- هـو الذي جلب كتب الفلسفة اليونانية إلى أرض الإسلام من بلاد الروم، حيث أرسل البرمكي إلى ملك الروم يطلب منه هذه الكتب، وكان الملك يخاف على الروم أن ينظروا في كتب اليونان فيتركون دين النصرانية ويرجعون إلى الوثنية الديانة اليونانية، ومن ثـم تتفـرق كلمتهم وجمعهم، فجمع الكتب اليونانية ووضعها في بئر وأغلق عليها بالحجر والجـص. فلما علم يحي بن خالد البرمكي بها أرسل لملك الروم في طلبها، ولقد فرح ملك الـروم لهذا الطلب، فجمع بطارقته وقال لهم: ما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسـدتها وأوقعت بين علمائها، وإن القوم الذين يطالعون هذه الكتـب سـيهلك ديـنهم وسـتبدد جماعتهم، وأنا أرى أن نرسلها للمسلمين حتى يبلتون بها ونسلم نحن من شرها، وإني لا آمن أن يأتي من بعدي من يخرجها للناس فيقعوا فيما أخاف منه، فقالت البطارقـة: نعـم الرأي أيها الملك. فأرسلها للمسلمين الذين طلبوها، فبعث الكتب اليونانية إلى يحيى بن خالد البرمكي، فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف، وبدأ التعريب والنقل على يد البرمكي، وأكمل ذلك الخليفة العباسي المأمون، ويقال أن أول من بدأ بتعريب الكتب اليونانية هو خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيمياء). ومن المسلَّم به أن فلسفة أرسطو نُقلت إلى العربية، إما مباشرة مـن اليونانية، وهذا هو شأن كتاب المقولات الذي نقله حنين بن إسحاق1، وإما عن طريق السـريانية التي طبعتها أساليب اليونان في التعبير، وكانوا يؤثرون الترجمة الحرفية باعتبارها تمثل الأسلوب العلمي الصحيح للنقل، كما كانت معرفة هؤلاء المترجمين بالعربية غير متينة، بل كانت أحيانا لا تتجاوز معرفة العامية. وأما معرفتهم بالفلسفة، فلم تكن حقـًا معرفـة المختصين، ولم تكن مقصودة لذاتها، بل كانت عندهم وسيلة لإتقـان الترجمـة، وربمـا اكتسبوها عن طريق التمرس على نقل النصوص الفلسفية. وهؤلاء المترجمين كانوا في غالبيتهم على دين النصارى، ومنهم من هو علـى دين الصابئة، وليس فيهم مسلم واحد، مما ترتَّب عليه أنهم تركوا تعاطي الاحتكاك بالنص القرآني؛ فكانت الترجمة الحرفية، والنقص في إجادة العربية الفصحى، والضـعف فـي التكوين الفلسفي، وسيطرة المعتقد غير الإسلامي، مما أدى إلى وضع لغوي معقد جدًا، لا تفيد معه معرفة قواعد اللسان العربي ولا أساليب الكتابة العربية، كما أدى إلـى دخـول العقائد الكفرية إلى الفكر الإسلامي. وما يسترعي الانتباه هنا هو وصف السيوطي للذين قاموا بترجمة الكتب اليونانية: (فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف)، مما يدل على أن السيوطي -ومن سار على نهجه قبله- كان يرى أن الاشتغال بالفلسفة كفر وزندقة. ولقد بينا في مقالات سابقة آراء الفلاسفة اليونان في: الله تعالى والوجود والعقل والطبيعة.. إلى غير ذلك من القضايا مما أظهر تباينًا واضحًا بين الفلسفة اليونانية والفكر الإسلامي بصورة عامة. ومن العلماء من قال بأهمية الفلسفة، وألف كتبًا في الرد على من أنكر أهميتها، مثلما فعل ابن رشد في كتاب: (تهافت التهافت)؛ وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الزعم ردا وافيا وبين أصل ضلال الفلاسفة ودرجاتهم وما يؤخذ عليهم؛ بل بلغ شيخ الإسلام في الاطلاع على مذاهب الفلاسفة ما لم يبلغه لا ابن رشد ولا أبو البركات ولا الكندي ولا غيرهم؛ ومن أراد التوسع في هذا المبحث فلرجع إلى الكتاب النفيس: درأ تعارض العقل والنقل

. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وهو معرفبأبي زيد طبيب ومترجم، وترجم عن اليونانية إلي السريانية والعربية، اتصل بالخليفةالمتوكل وخدمه بالطب، عين له المتوكل كُتَّابًا للترجمة، يترجمون ويراجع هوترجماتهم، ذكر القفطي كتبه المؤلفة والمترجمة في كتاب: (أخبار العلماء بأخبارالحكماء).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *