سادسا: هل توجد فلسفة إسلامية؟:
أطلق كثير من أهل العلم اسم: الفلسفة الإسلامية، والفلسفة العربية الإسلامية، والفلسفة الإسلامية العربية، على التراث الفكري الذي أنتجه الفلاسفة المسلمون خلال العصر الإسلامي، فهل حقا توجد فلسفة إسلامية؟ لقد تبين لي مما ذكرناه في هذا البحث عن الفلسفة اليونانية، أن القول بوجود فلسفة إسلامية أنشأها الفلاسفة المسلمون، هو قول غير صحيح، وفي غاية التضليل والتمويه، والتدليس والتحريف والتغليط، وأدلتي على ذلك كثيرة أذكر منها خمسة فقط، أولها إن الفلسفة التي كانت سائدة بين المسلمين هي الفلسفة اليونانية عامة والمشائية خاصة، وهذه الفلسفة إلهياتها وروحها تتناقض تماما مع الإسلام أصولا وفروعا، كالقول بقدم العالم، وجحود النبوات والكتب المنزلة، وإنكار علم الله بالجزئيات، أفليس من الجهل المركب والكذب المفضوح أن يُسمى هذا التراث بأنه فلسفة إسلامية؟!.
وثانيها أنه من الثابت تاريخيا أن الفلسفة التي كانت عند الفلاسفة المسلمين هي في معظمها تراث يوناني مُترجم إلى اللغة العربية، ثم ضخمه الفلاسفة المسلمون بالشروحات والتلخيصات والتهذيبات والتعقيبات، لكنه ظل في أساسه يونانيا في أصوله وتفاصيله، لأن تلك الأعمال كانت أساسا في خدمة تلك الفلسفة والانتصار لها، ولم تكن أعمالا علمية حرة موضوعية موجهة لنقدها على ضوء النقل الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح، فهل يصح بعد هذا أن نسميه فلسفة إسلامية؟!.
وثالثها أنه لو كانت تلك الفلسفة إسلامية، ما قاومها علماء أهل السنة في رجالها وأفكارها وتراثها، فمقاومتهم لها دليل على أنها ليست إسلامية وأنها خطر علي الدين والأمة معا، وهم غير متهمين، فهم من أحرص المسلمين دفاعا عن الدين وتطبيقا له وغيرة عليه.
ورابعها إن معظم رجالات الفلسفة المسلمين كانوا منحرفين عن الإسلام عقديا وسلوكيا بسبب الفلسفة اليونانية، وهذا يعني أنهم كانوا يمثلون تلك الفلسفة لا الإسلام، لذا فإنه من الخطأ الفادح أن ننسب هؤلاء وتراثهم لدين الإسلام.
وخامسها إن أي علم لكي يكون إسلاميا لا بد أن تكون أصوله و فروعه ومقاصده إسلامية قلبا وقالبا، فهل يتوفر هذا في فلسفة اليونان المعرّبة التي كانت عند رجالات الفلسفة المسلمين؟ لا شك أنها لا تتوفر على ذلك قطعا، فهي فلسفة وثنية صابئية شركية، بعيدة عن الإسلام ومناقضة له، وما أضافه إليها الفلاسفة المسلمون من مصطلحات وشروحات لم يُغير من حقيقتها شيئا.
وقد يُقال لماذا سميَّ فلاسفة العصر الإسلامي بالفلاسفة المسلمين ولم تسم فلسفتهم إسلامية؟ والجواب هو أن هناك فرق كبير بين النسبة للمسلمين والنسبة للإسلام، فليس كل ما فعله المسلمون هو إسلامي بالضرورة، وليس كل ما هو إسلامي بالضرورة أن المسلمين قد التزموا به وفعلوه، كما أن اسم: المسلمون، هو اسم عام يشمل كل أهل القبلة، وفيهم المنافق والزنديق والضال، وقد كان المنافقون زمن الرسول –عليه الصلاة والسلام – يُحسبون من المسلمين وهم في الدرك الأسفل من أهل النار، لذا فإن تسميتهم بالفلاسفة المسلمين لا تعني بالضرورة أن فلسفتهم إسلامية.
وقد يتساءل بعض الناس فيقول: ألم يُطلق على فلاسفة المسلمين اسم: فلاسفة الإسلام؟، وما هو الاسم الذي يصح أن نطلقه على تراث الفلاسفة المسلمين؟، وهل يمكن أن توجد حكمة وفلسفة إسلامية؟ ففيما يخص التساؤل الأول، فقد أطلق المتأخرون اسم فلاسفة الإسلام على الفلاسفة المسلمين، وأطلقه الشيخ ابن تيمية على يعقوب الكندي، لكنه حدد معناه بقوله: (أعني الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا ليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا لبعض أعيان القضاة في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام، فقال ليس للإسلام فلاسفة)، فالمقصود من مصطلح: فلاسفة الإسلام، هو فلاسفة عصر الإسلام، أو فلاسفة العصر الإسلامي، أي الفلاسفة الذين ظهروا في تاريخ الإسلام، وليس المقصود به: فلاسفة دين الإسلام، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هؤلاء فلاسفة دين الإسلام؛ وقد سبق وأن ذكرنا ضلالاتهم وشركياتهم وانحرافاتهم وأقوال العلماء في تضليلهم.
ومما يزيد الأمر وضوحا أن ابن الجوزي قال: زنادقة الإسلام ثلاثة، ابن الرواندي، وأبو العلاء المعري، وأبو حيان التوحيدي، فمقصوده زنادقة العصر الإسلامي، أي الذين ظهروا في تاريخ الإسلام، وليس مقصوده زنادقة دين الإسلام، فدين الإسلام له مؤمنون وعلماء، وليس له زنادقة!.
وأما التساؤل الثاني، فبما أنه قد تبين أن تراث الفلاسفة المسلمين ليس فلسفة إسلامية، فلابد إذن من تغيير اسمها، وأنا اقترح أن تسمى-مثلا-: الفلسفة اليونانية المعرّبة، أو الفلسفة اليونانية العربية، أو فلسفة المسلمين اليونانية، أو فلسفة العرب اليونانية.
وبالنسبة للتساؤل الثالث عن الحكمة والفلسفة في الإسلام، فأقول: نعم في الإسلام حكمة، والحكمة من صفات الله تعالى، فهو حكيم، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أتاهم الله الحكمة وفصل الخطاب، قال تعالى: (وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب) سورة ص 20، و(وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) سورة النساء 123، والحكيم من المسلمين هو الذي جمع بين معرفة الدين والعلم النافع والعمل الصالح؛ وليس هو الذي تعلم فلسفة اليونان وانحرف عن دين الإسلام.
وأما الفلسفة، فيمكن أن توجد فلسفة إسلامية -بغض النظر عن التسمية- ، إذا ما كانت أصولها وفروعها ومقاصدها إسلامية، وكان منهاجها قائما على الوحي أولا، ثم على العقل الصريح والعلم الصحيح ثانيا، لا على الظنون والأوهام، والأهواء والشركيات والأساطير، على أن ينحصر مجال عملها في فهم نصوص الكتاب والسنة وإظهار حكمتهما، والاجتهاد في اكتشاف آيات الآفاق والأنفس، ومختلف مظاهر الكون الظاهرة والخفية، مع الابتعاد كلية عن الخوض في الغيبيات التي لا يدركها العقل والتي تكفّل الشرع بتبيانها، لأنه ليس من العقل أن يخوض العقل فيما لا يدركه العقل، مع التسليم المطلق للشرع، لقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ولا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويُسلّموا تسليما) سورة النساء 56.