الكنيسة تساند الاستعباد باسم الدين… نظام الإقطاع

تكلمنا في المقال السابق عن الإقطاع في أوروبا وأنه أدى إلى تحول أغلب أوروبا إلى مجتمعات ريفية فقيرة، واندثرت المدنية في الكثير من الأقطار الأوروبية، كما انحصر المجتمع إلى عدة طبقات ذكرنا منها: السيد المالك ورجل الدين وبقي:

3- العبد: أباحت الكنيسة استرقاق المسلمين والأوروبيين الذين لم يعتنقوا الدين النصراني، وكان آلاف من الأسرى الصقالبة أو المسلمين يوزعون عبيداً على الأديرة، وكان القانون الكنسي يقدر ثروة أراضي الكنيسة في بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساوي من المال، فقد كان العبد يعَدُّ سلعة من السلع كما يعده القانون الزمني سواء بسواء، وحرم على عبيد الكنائس أن يوصوا لأحد بأملاكهم، وحرم البابا جريجوري الأول على العبيد أن يكونوا قساوسة، أو أن يتزوجوا من النصرانيات الحرائر.
4- رقيق الأرض: لم يكن رقيق الأرض عبداً بمعنى الكلمة، لكن حاله لا يختلف عن العبد في شيء، والفارق بينهما أن العبد -في الأصل- إما أسير مغلوب، وإما مخالف للسيد في الدين أو الجنس أو المذهب، بعكس الرقيق الذي هو أصيل في الإقطاعية، وينتمي إلى الدين والجنس اللذين ينتمي إليهما سيده.
والأصل في رقيق الأرض أنه رجل يفلح مساحة من الأرض يمتلكها سيد أو بارون، وكان في وسع المالك أن يطرده متى شاء، وكان من حقه في فرنسا أن يبيع الرقيق مستقلاً عن الأرض، أما في إنجلترا فقد حرم من مغادرة الأرض، وكان الذين يفرون من أرقاء الأرض يعاد القبض عليهم بنفس الصرامة التي يعاد بها القبض على العبيد، وهذا الصنف هو الصنف الغالب في الإقطاعيات، بل هو في الحقيقة يمثل مجموع سكان أوروبا تقريباً باستثناء النبلاء ورجال الدين.
وقد كان لانقسام المجتمع إلى هذه الطبقات سبب رئيسي وهو الحروب الصليبية، التي أثقلت أوروبا بالكثير من الأموال، ففرض الملوك الكثير من الضرائب على الإقطاعيين، وبدورهم لم يجد الإقطاعيين موردًا لتحصيل الضرائب إلا فرض الضرائب كذلك على ما يملكون من عبيد تحت أيديهم.
وأدى هذا إلى مزيد من الاستغلال للأرقاء من قبل أسيادهم، كي يعوض الأسياد عن الضرائب التي فرضتها الحكومة المركزية على إقطاعياتهم، ولم يَدُر ببال الملوك أن يفكروا في شأن الأرقاء، بل كان كل همهم أن تأتي الضريبة كاملة من أي طريق.
ولقد بدأت أوروبا تتململ من رقدتها بسبب تلك الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي تعيشها في الإقطاع، وكان احتكاكها بالعالم الإسلامي عن طريق الأندلس والحروب الصليبية أكبر الأثر في ذلك، ولكن كان من العوائق الكبرى التي خيبت جهود الثائرين أن الكنيسة وقفت ضدهم وأجهضت محاولاتهم.
حيث أقرت الكنيسة النظام الإقطاعي السائد، بل أصبحت مؤسسة من مؤسساته الثابتة، وأقرت الاضطهاد الفظيع الذي كان يتعرض له أرقاء المجتمع رغم تنافيه مع تعاليم الإنجيل، ووقفت تتهدد الثائرين على الظلم المتمردين على الطواغيت بأنهم مارقون من الدين، وأنهم ملعونون عند الله.
وحاولت تخدير الثائرين على الظلم بأن الرضا بالظلم في الحياة الدنيا هو مفتاح الرضوان في الآخرة، فأما العبيد الثائرون فقالت لهم: إن السيد المسيح يقول :(من خدم سيدين في الدنيا خير ممن خدم سيدًا واحدًا)، وأما المظلومون عامة فقالت لهم: (إن من احتمل عذاب الدنيا؛ فسيعوضه الله بالجنة في الآخرة).
بل سلكت الكنيسة مسلكا آخر غير التهديد والترغيب بالآخرة، سلكت مسلك التبرير الديني لنظام الاسترقاق الإقطاعي على يد القديس توما الأكوين، الذي فسره بأنه (نتيجة لخطيئة آدم)، وكأن رجال الكنيسة والبارونات ليسوا من بني آدم.
وهذا ما دفع ماركس إلى أن ينسج فكرته الإلحادية ويضمنها قولته الشهيرة: (الدين أفيون الشعوب)، وهي قولة صادقة كل الصدق على دين الكنيسة المحرف، ولكنها كاذبة كل الكذب حين تطلق على الدين المنزل من عند الله.
وقد كان لهذا النظام الاجتماعي الظالم ومساندة الكنيسة له أثر خطير في الحياة والفكر الغربي، فقد تم الربط بين الإقطاع والدين، حيث كان النظام الإقطاعي في عنفوان شبابه، في الفترة نفسها التي كانت النصرانية فيها في أوج عظمتها، ثم كان انهيار النظام موازياً لانهيار الكنيسة، واستنتجت أوروبا في عصر النهضة من ذلك معادلة خاطئة، وهي أن المجتمع الإقطاعي طبقي ظالم لأنه متدين، وإذًا فزوال الظلم من المجتمع يستلزم نبذ الدين كلية، أو على الأقل عزله عن التأثير في مجريات الأحداث؛ وتلك كانت نظرية الكتاب الطبيعيين الذين وضعوا نواة الفكر الرأسمالي الحديث.
وبالإشارة إلى النظام الإقطاعي نكون قد استجمعنا الأسباب التي أدت إلى الثورة على الكنيسة، ونبدأ بإذن الله في المقالة القادمة المرحلة الرابعة وهي (الثورة الفرنسية: بوادر وأحداث ونتائج).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *