تحدثنا في المقال السابق عن بعض مظاهر التغيير الذي أعقب الثورة الصناعية وفي هذا المقال نكمل كلامنا عن مظاهر التغيير ونتائجه.
3- أصبح العمل ليس قاصرًا على رب الأسرة فقط
وهذا يعتبر نتيجة لخروج المرأة إلى العمل، فأصبح الرجل يعمل والمرأة تعمل والأطفال يعملون، ولا يعود البيت في حسِّهم جميعاً هو ذلك الرباط المقدس الذي يربط بعضهم ببعض، والذي يلتزمون نحوه بآداب ومشاعر وتقاليد وطقوس، والتي كانت تنشأ في المجتمع الريفي من وجود امرأة مستقرة تنظم هذه المشاعر وتمسكها بيدها، أو بقلبها فلا تفلت منها، كما تنشأ من سيطرة الزوج على الموقف كله داخل الأسرة، وصدور التشريعات في داخل المنزل منه وحده.
فكان يوجد رباطان متقابلان يربطان كل أفراد البيت: رباط عاطفي تملك قيادة الأم، ورباط عملي يملك قيادة الأب، والأطفال بين هذا الرباط وذاك يروحون ويجيئون في حضن الأسرة ولا يتعدونه.
كل ذلك تغيَّر حين خرجت المرأة من مستقرها فانفلت الرباط العاطفي، فلا وجود له في زحمة العمل والجهد الناصب الذي تبذله المرأة فيه، وتغير كذلك حين استقلت المرأة اقتصادياً فصارت لها سلطة مع سلطة الأب.
فانفلت الرباط العملي الذي كان يحكمه تفرد الأب، ثم تغير مرة ثالثة حين ذهب الأطفال يعملون، فيصرهم جو العمل مبكراً قبل أوانه، ويفسد فيهم مشاعر الطفولة، ويستحث فيهم مشاعر النضوج في كيانٍ طفل، فتختل مشاعرهم وينفلتون من الرباط، الرباط العاطفي والرباط العملي سواء.
4-نشأة النظام الرأسمالي
قام النظام الرأسمالي الصاعد مع صعود الثورة الصناعية على أساس ربوي صريح، وعلى الرغم من احتجاج الكنيسة وصراخها ضد نظام الربا، فقد مضت الرأسمالية في طريقها لا تصغي سمعاً لصراخ الكنيسة، مدفوعة بشهوة المال الجامحة، ولا تهمها قيود الأخلاق أو قواعد الدين.
وكان من نتائج تلك التغيرات ما يلي:
1- التفكك الأسري وبالتالي من العادات والتقاليد والأخلاق.
فالرجل من حيث هو رجل لم يعد له السلطان المطلق في بيته كما كان.
والمرأة لم تعد تعتبر نفسها قعيدة بيتها، ولا ملزمة بالطاعة الكاملة.
وطفل مشرد نفسياً وإن كان يحمل بين أصابعه شيئاً من النقود.
وبيت لا رباط فيه.
وبالتالي نشأ الجيل الجديد بلا تقاليد أو أخلاق تحدد الصواب من الخطأ، لا شيء إلا الحرية.
2- التهيئة لقبول فكرة التطور حتى في العادات والتقاليد والأخلاق بل حتى في الدين نفسه.
لقد كانت الحياة من قبل هادئة رتيبة بطيئة، تمر على وتيرة واحدة في القرية أو الإقطاعية، الفلاحون يعملون في الأرض أرقاء أو طلقاء، وزوجاتهم في المنازل يدبرن شئونها ويغزلن الغزل ليبعنه في السوق، والأسرة -في صورتها تلك- مكنية الروابط، لا يفكر أحد أو يجرؤ على تفتيت روابطها، والناس متعارفون على مفهوم معين للدين والأخلاق والتقاليد، يرعونه حق رعايته أو لا يرعونه، ولكنهم لا يفكرون في مناقضته حتى ولو خالفوا تعاليمه في سلوكهم الواقعي، ولكل شيء من ذلك قداسة استمدها من طول الممارسة وثباتها فوق استمدادها من رهبة الدين.
والجريمة الخلقية يرتكبها نفر من الشبان الطائشين لأنهم طائشون، وقد يتغاضى عنها المجتمع، ولكنه في نظرة جريمة، والفتيات لا يرتكبن هذه الجريمة لأن سمعتهن تذهب إذًا إلى الأبد، وكذلك تقضي مفاهيم المجتمع؛ فهناك الفضيحة وهناك العار، وهناك أيضاً في هذه الحالة رهبة الدين، أما الآن وفي المجتمع الجديد فكل شيء قابل لأن يتغير، فعجلة الحياة تسير بسرعة ولا مكان للروابط والعادات والتقاليد في المجتمع الصناعي.
وتلك النقطة -ألا وهي التطور المطلق- هي النقطة التي نفذ منها اليهود لهدم الدين الكنسي الأوروبي على أيدي ثلاثة من علمائهم، وهم ماركس وفرويد ودركايم.
ولكن كيف؟
هذا ما سنتطرق له بإذن الله تعالى في المقال القادم، ليتضح لنا أكثر كيف رسخت فكرة المادية واللادينية في عقول الأوربيين.