بعد أن استعرضنا مسلك الكنيسة في تحريف العقيدة والشريعة؛ كان لا بد من إلقاء الضوء على الأسباب التي جعلت الناس تشعر بالسخط تجاه الكنيسة، مما أدى بدوره بعد ذلك عبر مرور العقود والقرون إلى قيام الثورات ضد الكنيسة.
وبداية وقبل الشروع في تعديد تلك الأسباب يجب أن نبين أن مرجع تلك الأسباب يتمحور حول عنصرين أساسيين:
1- طمع رجال الكنيسة وفسادهم الديني.
2- تفتح العقل الغربي.
أما تفصيليًا فكانت أسباب الثورة على الكنيسة ترجع إلى:
1- طغيان الكنيسة وكان له صور عدة: [الطغيان الروحي والعقلي–الطغيان المالي–الطغيان السياسي–الطغيان العلمي (وهو من أهمها)].
2- فساد رجال الدين، وما كان من فضائح أخلاقية في الأديرة.
3- محاكم التفتيش.
4- مساندة الكنيسة لنظام الإقطاع.
أولا: طغيان الكنسية:
إذا نظرنا في الأحقاب التاريخية المتوالية سنجد أن الكنيسة لن تدع جانبًا من جوانب الحياة دون أن تمسكه بيد من حديد، وتغله بقيودها العاتية، فهيمنت على المجتمع من كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها البتة، وإن التاريخ ليفيض في الحديث عن طغيان الكنيسة، ويقدم نماذج حية له في كل شأن من هذه الشؤون، ولنستعرض شيئًا من ذلك في نواح مختلفة من الحياة:
صور الطغيان الكنسي:
1- الطغيان الروحي:
لما انقضت عصور الاضطهاد، واعتنقت الدولة الرومانية الدين الكنسي؛ احتفظ رجال الكنيسة بحق قراءة وشرح الكتب المقدسة، وأيَّدتهم الدولة في ذلك؛ لتجمع رعاياها على عقيدة واحدة بإتاحة الفرصة للكنيسة للقضاء على الفرق المنشقة، والذي حدث هو أن رجال الكنيسة ورثوا عن أحبار اليهود صفاتهم الممقوتة؛ من التعصب الأعمى، واتباع الهوى واحتكار الرأي.
وهكذا ظلت مصادر الدين الكنسي حكرًا عليهم لا تقع عليها يد لباحث أو ناقد من غير رجال الدين.
لذا كان لرجال الدين سلطان روحي طاغٍ على الناس بوصفهم الوسطاء بينهم وبين الله، فالنصراني من مولده إلى مماته مرتبط بالكاهن ذلك الرباط الذي يمثل في حسه الصلة التي تصل قلبه بالله، ولا يستطيع مهما كانت حرارة وجدانه أن يعقد صلة مباشرة بالله بعيدة عن سلطان الكاهن.
وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله، مثل حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلَّة1، ولم تتردد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها، فحق الغفران أدَّى إلى المهزلة التاريخية “صكوك الغفران” السالفة الذكر، وحق الحرمان عقوبة معنوية بالغة كانت شبحًا مخيفًا للأفراد والشعوب في آن واحد.
و لا شك أن تلك الممارسات العملية قد جعلت الناس –وخاصة في القرون الأخيرة التي كانت قبل الثورة العامة على الكنيسة- يحاولون التخلص من ربقة النصرانية بأن يكونوا “ملحدين” أو حتى كفارًا في وجهة نظر الكنيسة؛ هربًا من ذلك الإذلال الروحي، وكان لذلك أكبر الأثر في تقنين الحرية الدينية بعد ذلك.
و سنعرض في المقال القادم بإذن الله صورة أخرى من صور الطغيان الكنسي وهي الطغيان المالي للكنيسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:1 حق التّحلة هو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين، وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة -مصلحتها هي- ذلك.