المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

ومن مظاهر جهلهم بالتفسير وتحريفهم له، أن الحافظ ابن كثير ذكر أن طائفة من أهل الضلالة والجهالة من الفلاسفة، لما سمعوا قوله تعالى عن جهنم: (لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، إلى قوله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) سورة المدثر: 29-31، قالوا أن عدد 19 يمثل العقول العشرة، والنفوس التسعة، فيكون المجموع 19، ثم قال ابن كثير: هؤلاء آمنوا بأول الآية و كفروا بآخرها، وهو قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، و تأويلهم هذا هو في غاية الفساد، لأن الآية صريحة في أنها تتكلم عن الملائكة، وهم مخلوقات نورانية يعبدون الله تعالى ولا يعصونه، ويفعلون ما يؤمرون، وعددهم لا يعلمه إلا الله؛ فما دخل هنا خرافة العقول العشرة والنفوس التسعة التي زعمها هؤلاء الفلاسفة؟!، علما بأن العقول العشرة عندهم، هي جواهر أزلية قديمة ذات طبيعة إلهية كالعقل الأول، الذي هو عندهم الله، وهذا مخالف للشرع الذي نص على أن الملائكة هم من مخلوقات الله، وليسوا آلهة أزلية.
وذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، أن جماعة من الفلاسفة المسلمين يتعمدون استخدام الألفاظ الشرعية للتمويه بها على الناس، فيطلقونها على مسميات مغايرة لمسمياتها الأصلية، كإطلاق اسم الملائكة على العقول والنفوس التي يقولون بها، ثم يقولون للناس: نحن نثبت ما أخبر به الأنبياء، وأقر به جمهور الناس.
وهذا الذي حكاه ابن تيمية عنهم صحيح، فقد قال به ابن رشد وأصحابه فزعموا أن الملائكة هي العقول المفارقة، كالعقل الفعال الذي هو ملك الوحي -أي جبريل-، وهي أزلية لا تموت، ولها تصرف في العالم تسييرا وإيجادا.
وذكر أيضا أن من مظاهر جهلهم بالتفسير والتاريخ، أنهم -أي الفلاسفة المسلمون- لما سمعوا أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم، يسمى أيضا بالأسكندر، قالوا هو الذي وزر له أرسطو، لعلمهم أن أرسطو وزر لرجل يسمى الأسكندر؛ ثم يقول ابن تيمية: إن ما قاله هؤلاء غير صحيح، وهو جهل بالقرآن والتاريخ، وذلك أن الذي وزر له أرسطو، هو الأسكندر بن فليبس المقدوني، الذي وصل إلى القدس، ولم يصل إلى بلاد السند -بالهند-، وكان هو وأرسطو وقومهم مشركين يعبدون الأصنام، لكن ذا القرنين كان مؤمنا موحدا، ومتقدما عن الأسكندر المقدوني زمنيا، ووصل إلى بلاد السند، ويسمى أيضا بالأسكندر بن دارا، وليس ابن فليبس المقدوني.
وأما في علم الحديث فقد ذكر بعض علماء أهل السنة ما يدل على إهمال الفلاسفة المسلمين لهذا العلم، وضعفهم فيه وطعنهم في رجاله، فمن ذلك احتجاجهم بالأحاديث الموضوعة، فقد ذكر ابن تيمية أن هؤلاء يحتجون بالأحاديث الموضوعة -أي المكذوبة-، منها حديث العقل: (أول ما خلق الله العقل)، وحديث (كنت كنزا لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف)، وهذان الحديثان موضوعان.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن أحاديث العقل غير صحيحة، لكن هذا لا يستلزم الطعن في العقل، وإنما يدل على أن تلك الأحاديث لم تصح في ميزان النقد العلمي، وأما العقل فله مكانته الصحيحة المرموقة في دين الإسلام، فهو مناط التكليف، وعليه تتوقف الأحكام الشرعية وجودا و عدما، وقد مدح الله تعالى أرباب العقول والألباب والقلوب، وحثهم على التفكر في الكون وفي أنفسهم، وعلى السيّر في الأرض بحثا واكتشافا واعتبارا وتدبرا، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) سورة غافر 54، و(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) سورة طه 128، و(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) سورة العنكبوت 20. والعقل الذي مدحه الشرع ورفع من شأنه، وأمر باستخدامه، هو العقل الفطري البديهي الطبيعي الصريح، وليس هو العقل المذهبي المتعصب الذي أفسدته الأهواء والعصبيات، والمذاهب الفكرية الفاسدة والمنحرفة؛ التي تتظاهر بالعقل وهي من خصومه، والمجهزين عليه.
*مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي، ق:2-13هـ- للدكتور خالد كبير علال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *