المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

نذكر من المعارضين للمنطق الأرسطي المشائي من السنيين ستة علماء، أولهم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ق:7 هـ)، حرّم الاشتغال بالمنطق، وأنكر على أبي حامد الغزالي زعمه أن المنطق هو مقدمة العلوم كلها، ومن لم يُحط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا؛ وردّ عليه بقوله: وهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا، وعندما سُئل عن المنطق، قال: (واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية، من المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية -ولله الحمد- افتقار إلى المنطق أصلا، هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، فالواجب على السلطان أعزه الله، أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم -أي الفلاسفة- ويُخرجهم من المدارس ويُبعدهم).
والثاني هو الفقيه أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ق: 7هـ)، حرّم هو الآخر الاشتغال بالمنطق، وأنكر على أبي حامد الغزالي ما قاله عن المنطق، وإلحاقه مقدمة منطقية بكتابه المستصفى في علم الأصول.
وثالثهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، كان يقول عن منطق اليونان: إنه لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد. وهو كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فينتقل إليه، وانتقد الفلاسفة في جعلهم المنطق ميزانا لعلومهم، مع أن حقيقته أنه لا يكاد يُنتفع به في علومهم إلا قليلا؛ ففي العلوم الرياضية أهلها مستقلون بها دون التفات لمنطق أرسطو واصطلاحاته، وفي العلوم الطبيعية والطبية، فإن الذي صحّ منها لا يرجع فيه حُذاقها إلى المنطق اليوناني، ولا يستعينون بشيء منه، وها هو إمام صناعة الطب أبُقراط، برع في الطب وصدّقت التجارب كثيرا من أقواله، ولم يستعن بشيء من المنطق، وهو قد عاش قبل أرسطو، وأما في أمور الحياة العملية، فيرى ابن تيمية أن أكثر أمورها لا يصح فيها استعمال المنطق، ولا يكاد يُنتفع به فيها؛ وأن أهل السياسة مثلا، يحققون أغراضهم الدنيوية، ولا يحتاجون فيها إلى التمنطق.
ويرى أن إدخال المنطق إلى العلوم الصحيحة هو عمل لا مبرر له، ولا نفع فيه، ولا فائدة علمية تُرتجى منه، إلا إتعاب الذهن، وتضييع الوقت، وكثرة الهذيان، وإبعاد الإشارة، وتطويل العبارة، وإبعاد القريب من العلم وتعسير يسيره، مع قلة العلم والتحقيق؛ فدلّ كل ذلك على أن صناعة المنطق قليلة المنفعة كثيرة الحشو والشقشقة، مع العلم أن كل ما يمكن علمه بالمنطق المشائي، فيمكن علمه من دونه.
ثم أشار ابن تيمية إلى أن منطق أرسطو يوجد بين نوعين من علوم الفلاسفة، لا مكان له فيهما، النوع الأول يشمل علوم الطبيعة و الرياضة، لا يُحتاج فيها للمنطق، والنوع الثاني يشمل علوم ما وراء الطبيعة -الإلهيات-، لا يُمكن استخدامه فيها، لأن أكثرها على غير القياس المنطقي، فطلب به أهله ما لا يمكنه إدراكه، وزاحموا به الفطرة والنبوة مزاحمة أوجبت من مخالفتهم للفطرة والنبوة، ما صاروا به من شياطين الإنس والجن الذين يُوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، لذلك كثر غلطهم وضلالهم، ولم يكن للمنطق في علومهم فائدة.
ثم قال أنه لا يوجد من أهل الأرض من حقق علما من العلوم وصار فيه إماما بالاعتماد على صناعة المنطق، لا في العلوم الدينية ولا في غيرها من العلوم، كالطب والحساب مثلا، كما أن كبار العلماء في العصر الإسلامي صنفوا كتبا كثيرة في علوم الشريعة واللغة والنحو وعلم الكلام، ولم يكن لهم التفات لمنطق اليونان، بل عامتهم كانوا قبل ترجمته إلى اللغة العربية؛ ومع ذلك بلغوا الغاية في تحقيق العلوم وكمالها، فكانوا أعمق الناس علما، وأقلهم تكلفا، وأبرهم قلوبا، لكن أهل المنطق ثبت بالاستقراء أنهم أكثر الناس شكا واضطرابا، وأقلهم علما وتحقيقا، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإن حقق بعضهم شيئا من العلم فمرده لصحة المادة والأدلة التي يُنظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، وليس لأجل المنطق.
ثم قال: إن المناطقة هم من أجهل أهل الأرض بالطرق التي تُنال بها العلوم العقلية والشرعية، إلا من علم منهم علما من غير طرقهم المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من طريق المنطق؛ الذي فيه كثرة التعب في البرهان، وضيق العلم والبيان، والعجز في التصّور والتعبير، ومن كان منهم ذكيا وسلك طريقهم، طوّل وضيّق وتكلّف وتعسّف، وغايته بيان البيّن، وإيضاح الواضح، وقد يُوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عُفي منها من لم يسلك مسلكهم.
ويرى ابن تيمية في إدخال الغزالي للمنطق في العلوم الشرعية، أنه بدعة عظُم شؤمها على المتفقهة حتى كثُر فيهم المتفلسفة، كما أن قوله عن المنطق بأنه معيار للعلم ومن لم يحط به فلا ثقة له بشيء من علومه، فهو غلط عظيم عقلا وشرعا، فأما عقلا فإن جميع بني آدم حرروا علومهم دون منطق اليونان، وأما شرعا فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الله تعالى لم يوُجب تعلم منطق اليونان على أهل العلم والإيمان.
والأعجب من ذلك أنه -أي الغزالي- صنّف في المنطق كتاب القسطاس المستقيم، ونسبه إلى تعليم الأنبياء، في حين هو -أي الغزالي- تعلّمه من ابن سينا، الذي هو بدوره أخذه من كتب أرسطو، ثم قال ابن تيمية أن مع تعظيم الغزالي للمنطق ومبالغته في ذلك لم يحصل له منه مطلوبه، ولا أزال عنه شكوكه وحيرته، وظل متوقفا حائرا في أعظم المطالب الإلهية العالية، والمطالب الربانية السامية، ولم يغن عنه المنطق شيئا، ومات وهو يشتغل بصحيحي البخاري ومسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *