رغم انتقاد ابن تيمية لكبار الفلاسفة المسلمين، فإنه قد اعترف ما لبعضهم من فضل وصواب، كأبي البركات البغدادي وابن رشد، والسيف الآمدي، فالأول مدحه كثيرا، ووصفه بأنه أوحد زمانه ومن أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا، وهو أقربهم إلى الحق في مجال الإلهيات؛ فلم يقلدهم واستنار بأنوار النبوة، فأثبت صفات الله وأفعاله الاختيارية وعلمه بالجزئيات، ورد على المشائين ردا جيدا دون تعصب، وكان يقول: قصدنا الحق وليس التعصب لقول فلان أو لقول معين، فهو عكس ابن رشد الذي كان يتعصب للفلاسفة ويغلوا في تعظيم أرسطو وشيعته.
وأما ابن رشد فقال عنه أي ابن تيمية: إن كلامه في الصفات أحسن من منحرفة الفلاسفة النافين لها كلية، ونوّه بموقفه في إثبات صفة علو الله وعلمه بالجزئيات، وقال أنه أقرب إلى الإسلام من ابن سينا.
لكنني أُشير هنا إلى أن ابن رشد كان مزدوج الشخصية، فقد أظهر إثبات بعض الصفات الإلهية في كتبه الكلامية، كالكشف عن مناهج الأدلة؛ لكنه نفاها في كتبه الفلسفية، قال فيها برأي أرسطو والمشائين من بعده.
وقال عن السيف الآمدي (ت 631 هـ)، أنه كان أحسن المتكلمين والمتفلسفة إسلاما، وأمثلهم اعتقادا، وأكثرهم تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية في زمانه.
وأما ابن قيم الجوزية فهو -أيضا- رغم ذمه للفلسفة ورجالها، فقد استعان بأقوال الفلاسفة المتقدمين في إثباتهم صفة علو الله و فوقيته على خلقه، أثناء رده على الفرق الإسلامية المنكرة لذلك، ونوّه بموقف الفيلسوف أبي البركات البغدادي في إثباته للصفات الإلهية، وقوله بحدوث العالم ورده على أرسطو في هذه القضية، ووصفه بأنه فيلسوف الإسلام في زمانه، وأنه أفضل الفلاسفة المتأخرين، ومدح ابن رشد لإثباته صفة الجهة لله تعالى في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، ورده على منكريها من المعتزلة ومتأخري الأشعرية.
وآخرهم الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، قال عن علوم الأوائل: فيها الحق كالحساب والهندسة والطب، وفيها أيضا الباطل كالطبيعي وكثير من الإلهي وأحكام النجوم، وعندما شرح حديث: (ألا وأن في الجسد مضغة ….))، وقرر أن إصلاح القلب هو إصلاح للجسم، قال: ((وهذا صحيح يؤمن به حتى من لم يؤمن بالشرع، وقد نصّ عليه الفلاسفة والأطباء)).
وأما فيما يخص قتل بعض الفلاسفة المسلمين، فأقول: أولا إن الذين قتلوا من الفلاسفة كان عددهم قليلا –ذكرنا منهم خمسة- بالمقارنة إلى كثرة عددهم وإلى امتداد الزمان والمكان في طول العالم الإسلامي وعرضه، ومن المعروف أن كبار الفلاسفة المسلمين المعروفين، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، لم يُقتل ولا واحد منهم.
وثانيا إن الذين قُتلوا من الفلاسفة لم يُقتلوا لأنهم فلاسفة، وإنما قُتلوا لأنهم اتهموا بالانحراف في العقيدة والسلوك، مع العلم أن معظمهم قتلوا لأسباب سياسية وشخصية بالدرجة الأولى، ثم أضيف إليها عامل الانحراف العقدي والسلوكي.
وثالثا إن القتل لم يكن خاصا بالفلاسفة دون غيرهم من طوائف العلماء، فالتاريخ الإسلامي شاهد على قتل كثير من أهل العلم من الصوفية والمتكلمين والمحدثين والأدباء، قتلوا لأسباب كثيرة، منهم: الأديب عبد الله بن المقفع (ت 144هـ)، وخالد بن سلمة بن العاص (ق: 2هـ)، والصوفي أبو الحسين الحلاج الصوفي البغدادي(ت 309هـ).
ورابعا إن هؤلاء الفلاسفة الذين قتلوا اظهروا من الطامات والانحرافات العقائدية والسلوكية ما يستحقون به القتل شرعا وعقلا، فأما شرعا فواضح، وذلك أن انحرافاتهم العقائدية والسلوكية هي طعن في دين الإسلام وحرب عليه وانتهاك له، وهي أخطر عليه من قطاع الطرق الذين أمر الشرع بقطع أطرافهم.
وأما عقلا فهؤلاء المنحرفون لم يحترموا عقولهم ولا فلسفتهم ولا مجتمعهم، وداسوا على مقدسات المسلمين، فكان القتل جزاءهم، وهذا أمر معروف فأي إنسان يدوس على مقدسات مجتمع ما، ولا يحترم مشاعرهم وعقائدهم، فسيكون القتل مصيره، من ذلك: ماذا ينتظر إنسان ما يدوس على العلم الأمريكي أمام مرأى ومسمع من الأمريكيين؟! فكان على هؤلاء الفلاسفة المنحرفين أن يحترموا مجتمعهم، فإن حريتهم تنتهي عند بداية حرية غيرهم، فكما هو له الحق في التعبير عن آرائه وأفكاره، فكذلك معارضوه لهم الحق أيضا في الدفاع عن أفكارهم التي هاجمها الطرف الأول، لذا كان أمامهم ثلاثة خيارات، أولها الاحتفاظ بانحرافاتهم دون إظهارها، وثانيها الهجرة إلى مجتمع آخر يسمح لهم بإظهارها، وثالثها إظهارها في مجتمعهم وتحمل تبعاتها.