نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

وثالثا إنه-أي ابن رشد- عرّف التأويل بأنه إخراج للفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية، وهذا تعريف مخالف للتأويل الصحيح الذي يعني التفسير والبيان والشرح، ونص عليه الله تعالى في قوله: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة النحل: 64، فالرسول –عليه الصلاة والسلام- من مهامه تبيين القرآن الكريم وشرحه للمسلمين، وليس تأويله لهم بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية المزعومة.
مع أن النصوص الشرعية محكمة تُفسر بعضها بعضا، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لقوله تعالى: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) سورة هود: 1، و(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) سورة فصلت: 42، فالنصوص الشرعية تأبى ذلك التأويل الرشدي المزعوم وترفضه رفضا مطلقا.
فإذا أخضعناها له حرّفها وتلاعب بها، الأمر الذي يدل على أن التأويل الرشدي ليس تفسيرا ولا مجازا، وإنما هو تحريف وتزييف، لأن التفسير هو شرح وتبيين وتوضيح لمعاني النصوص من دون تحريف لها، ولأن المجاز هو أسلوب عربي يُعبر به عن الحقيقة الأصلية بطريقة بيانية بلاغية بلا نفي لها ولا تزييف، وبلا إخراج للألفاظ من دلالتها الحقيقية، وإنما هو تعبير عنها بطريقة مجازية بلاغية.
ورابعا إنه مما لاشك أن القرآن الكريم استعمل مختلف أساليب التعبير في اللغة العربية، كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز، وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه أنزله: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) سورة الشعراء: 195، فاستعمل الله تعالى تلك الأساليب للتعبير عن الحقائق المذكورة في كتابه العزيز، وبما أنها حقائق فلا يصح أبدا إخضاعها للتأويل الرشدي ليُخرجها من دلالاتها الحقيقية إلى مجازات وهمية، فماذا يبقى فيها إذا أخرجناها من دلالاتها الحقيقية؟!، لا يبقى فيها إلا الظنون والأوهام والأهواء، وبما أن النصوص الشرعية كلها حقائق بمختلف أساليبها التعبيرية، تُفهم بالتفسير والبيان والشرح على الطريقة الشرعية في فهم القرآن الكريم، فإن التأويل الرشدي -المخالف للشرع واللغة- لا يصح استخدامه لفهم النصوص الشرعية.
وخامسا إن ابن رشد -في تعريفه للتأويل- لم يكن منطلقه صحيحا، فلم يأخذ معناه من الشرع، ولا من لغة القرآن الكريم، ولا من فهم السلف الأول له، وإنما انطلق -في فهمه له- من منطلق كلامي فلسفي مُحدَث، اختلقه المؤوّلون من المتكلمين والفلاسفة، فلم يكن مُنطلقه مُنطلقا علميا موضوعيا، وإنما كان منطلقا مذهبيا موجها لخدمة أفكار مذهبية مسبقة، وعمل هذا حاله مرفوض شرعا وعقلا، لأنه لا يصح تأويل الشرع بلا دليل من الشرع نفسه من جهة، ونفرض عليه مفهوما ليس شرعيا وبلا دليل صحيح من اللغة العربية من جهة أخرى، فمسلك ابن رشد هو انحراف منهجي خطير يقدح في نزاهته وموضوعيته.
وسادسا إنه -أي ابن رشد- وصف تأويله -الذي تبناه وذكرناه سابقا- بأنه على (قانون التأويل العربي) فصل المقال ص: 98. وقوله هذا غير صحيح، لأن التأويل العربي الصحيح هو الموافق لمعنى التأويل في الشرع ولغة القرآن، وعند السلف الأول، بما أن تأويله المزعوم مخالف لهذا المعنى، فإنه ليس على قانون التأويل العربي بالضرورة، وإنما هو على قانون المؤوّلين من المتكلمين والفقهاء والفلاسفة.
وأما لماذا دعا ابن رشد إلى تأويل الشرع؟ -وفق مفهومه للتأويل-، فهو يرى أن سبب ذلك هو التعارض الذي قد يحدث بين النظر البرهاني والنصوص الشرعية، فإذا أدى (النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلوا ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع أو عُرّف به، فإن كان مما قد سُكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سُكت عنه من الأحكام… وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هناك، وإن كان مخالفا طُلب تأويله). وقال أيضا: (ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان و خالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي). ونصّ صراحة على أن في الشرع ظواهر متعارضة بسببها يكون التأويل فصل المقال ، ص: 97، 98 .
وقوله هذا غير صحيح، ويتضمن انحرافا منهجيا كبيرا، لأنه أولا افترض أمرا وهميا لا وجود له في الشرع أصلا، ثم بنى عليه أمرا خطيرا، وهو: إقرار مبدأ التأويل والتأصيل له حسب مفهومه له، وهذا أمر لا يصح لأنه لا يُوجد أي تعارض بين النصوص الشرعية نفسها إذا فهمناها وفق المنهج الشرعي الصحيح، ولأنه أيضا لا يُوجد دليل في الشرع نص على التأويل الرشدي، أو دعا إليه و حث عليه، فليس لابن رشد دليل على شرعية تأويله مبدأ ومفهوما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *