تحريف العقيدة النصرانية

2- تحريف الأناجيل
إن محرري دائرة المعارف البريطانية، وهم من ذوي الكفاءات العالية في معظم التخصصات -ومنها اللاهوت- لم يتطرفوا أو يبالغوا في القول بأنه “لم يبق من أعمال السيد المسيح شيء ولا كلمة واحدة مكتوبة” بل إنما عبروا بذلك عما ينبغي أن يقرره الباحث العلمي المدقق.
ونحن المسلمين نؤمن بأن في خبايا الأناجيل شيئ من أقوال المسيح وتعاليمه، التي يحتمل أنها وحي من الله، لكن ذلك لم يثبت لدينا بسند تاريخي موثوق إلى المسيح عليه الصلاة والسلام.
يقول آدم كلارك أحد شراح الأناجيل: “محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية، وكثرة هذه الأحوال غير الصحيحة هَـيَّجت لوقا على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية، وكان فابري سيوس جمع الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاث مجلدات”.
ويقول لوقا في المقدمة: “إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّامًا للكلمة؛ رأيت أنا أيضًا، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز تاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به”.
وعلى هذا فلا السبعون الكاذبة ولا إنجيله الصادق وحي من الله، ولا أحدها هو منسوب إلى المسيح عليه السلام، بل الكل سير وقصص يكتبها أتباع المسيح عن حياته ودعوته، كما سمعوها من أسلافهم الذين رأوا المسيح وخدموه، ولو استعرنا عبارة الفيلسوف الفرنسي “غوستاف لوبون” لقلنا عن الأناجيل التي بين أيديهم الآن: “هي مجموعة من الأوهام والذكريات غير المحققة التي بسطها خيال مؤلفيها”.
يقول “لاندر” أحد مفسري الأناجيل: “حُكِمَ على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان “أناسطيوس” في الأيام التي كان فيها “مسالة” حاكمًا في القسطنطينية، فصححت مرة أخرى”، وهذا القول اعتراف بالغ الخطورة، فهو يقرر ثلاث حقائق تاريخية:
1- أن مؤلفي الأناجيل مجهولون، وظلوا كذلك حتى القرن الرابع الميلادي.
2- أن لأهواء الحكام وميولهم يدًا فيما تعرضت له الأناجيل من تحريف باسم التصحيح.
3- أن التحوير والتعديل ظل يمارس في الأناجيل دون شعور بالحرج، مما يدل على أنه عادي مألوف.
مجمع نيقية…. إقرار الانحراف
وكان عام 325م يمثل معلمًا من معالم التاريخ البارزة، ففيه عقد مجمع نيقية الذي ابتدئت به صفحة جديدة في تاريخ الديانات العالمية، وهذا المجمع يستحق أن يقف عنده المرء طويلا.
إن أي مجمع أو مؤتمر يجب أن تتوفر فيه شروط خاصة -لا سيما إذا كان دينيًا- ومن أوجب هذه الشروط:
1- حرية البحث والمناظرة، سواء في جدول أعماله أو صيغة قراراته، فلا تكون هنالك سلطة قاهرة تفرض على المجتمعين موضوعًا أو قرارًا بعينه مهما كانت.
2- نزاهة القصد وروح التفاهم، بأن يكون الوصول إلى الحق هدفًا مشتركًا بين المجتمعين بدون تعصب أو إصرار.
3- اتخاذ قرارات سائغة ومنطقية مع اعتراف مقرريها بأنها عرضة للخطأ والصواب وقابلة للنقاش، وإلا جاز اتهامهم بالاستبداد الفكري.
وهذه الشروط -مع الأسف- مفقودة كليًا في هذا المجمع:
أولاً: لم يكن سبب انعقاده ذاتيًا نابعًا من الأساقفة أنفسهم، بل إن الإمبراطور الروماني قسطنطين هو الذي دعا إلى انعقاده، وهو رجل وثني ظل وثنيًا إلى أن عُمِّد وهو على فراش الموت.
ثانيًا: حضر المجمع ألفان وثمانية وأربعون من البطارقة والأساقفة، يمثلون مذاهب وشيعًا متناحرة، أبرزها فرقتان:
1-الموحدون، كما يدعون، أتباع آريوس، وكان عددهم يقارب 700 عضو.
2- الثالوثيين، أتباع بولس، وكان عددهم حوالي 318 عضوًا.
ومعلوم أن وثنية قسطنطين ثالوثية، وهذه في حد ذاتها تمثل قوة معنوية للثالثوثيين، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنه جمع 318 أسقف في مجلس خاص، وجلس في وسطهم، وأخذ خاتمه وسيفه وسلمه إليهم، وقال: “قد سلطتكم اليوم على مملكتي”.
ثالثًا: لم تكتف قرارات الجمع بالتحيز لقسطنطين ودعاة التثليث، بل لعنت وحرمت من يخالف هذه القرارات، والحرمان عقوبة لها حجمها الكبير عند النصارى.
وأبرز قرارات المجمع القرار الذي اتخذه بشأن الأناجيل، وهو أن الأناجيل المعتمدة الصحيحة هي الأناجيل الأربعة المنسوبة لـ”متى ولوقا ومرقص ويوحنا”، وأما ما عداها؛ فمزيف مكذوب تحرم قراءته، ويجب حرقه وإبادته.
وإن كنا لسْنا هنا بمعرض توضيح التحريفات التي في الأناجيل الأربعة المختارة إلا أن هذا القرار بلا شك قرار جائر بحق الدين والتاريخ، لاسيما وأن الناظر إلى هذه الأناجيل يجد بينها من التضاد الشكلي والموضوعي ما يؤكد أنها ليست وحيًا، بل ليست سيرة صادقة للمسيح عليه السلام.
وإن كان تحريف العقيدة أمرًا له أثر في الفكر الغربي؛ إلا أن تحريف الشريعة؛ واستغلال الدين لإشباع الأطماع دنيوية؛ كان له الأثر الأكبر في التاريخ الغربي، وهذا ما سنشرع في بيانه في المقال القادم بإذن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *