الحرية والمسؤولية.. أية توافقات وأية مفارقات؟ -الحلقة الثانية- د. محمد وراضي

موضوع الحرية موضوع شائك، كان ولا يزال مدار بحث الأقدمين والمحدثين والمعاصرين، إنه من ضمن المطلقات (=لنستحضر موضوع الجبر والقدر والاختيار) التي لم يصل بخصوصها الباحثون إلى تعريف حاسم، والحال أن التعامل معه كمفهوم مطلق، لا يمارسه غير من افتقد الرشد أو النضج العقلي والنفسي! إذ لا يصح الجزم بتاتا بأن الحرية التي تقدم الشعوب ضحايا من أجل الحصول عليها، هي فعل ما يريد أي مواطن فعله، بدون ما رقيب، وبدون ما ضابط، وبدون ما زاجر قانوني أو شرعي. فنكون هكذا قد ابتعدنا عن الفهم الفوضوي لما نقدم عليه من اختيارات. وفي الوقت ذاته عن الفهم الأناني للحرية كمفهوم يشترك في التمتع به الجميع داخل حدود، أو داخل ما اعتبرناه من قيود الحتميات؟
إننا في الواقع لا في الخيال -كمجتمع من المجتمعات البشرية وكدولة- لنا ثوابت، إذ بدونها لا مجال للحديث عن الاستقرار! وفي الوقت ذاته نؤمن بحتمية المتغيرات. فيكون من باب المنطق التجريبي الذي حكم التاريخ ويحكمه، هو صعوبة إلغاء الثوابت الراسخة لمجرد التفكير في إلغائها. مما يدل على أن التغيير بالتدريج لا يوجد خارج القيام بعملية تتيح باستمرار تعايش القديم والجديد. خاصة وأن الجديد في حد ذاته قد يناله التقادم فيصبح قديما. والحال أن التعلق به لدى الأغلبية كجديد يجري به العمل كناموس من نواميس الطبيعة الإنسانية.
وبما أن الثوابت لدى الأمم، لا تغطي مجالا بعينه، وإنما تغطي مجالات عدة. فإن تجاوز بعضها إنما يتم منظورا إليه من خلال شبكة من العلاقات المادية والمعنوية. فإن سهل التغيير في الماديات، يكون العكس حاصلا في المعنويات. فاللباس، والأدوات، والتجهيزات، والتنوع في فن العمارة والنقل وتحويل الأموال وادخارها، وأداء ثمن المشتريات بالجملة وبالتقسيط، لا تمس القيم الأخلاقية، وإن كان بعضها يمسها كما يمس القيم الدينية. فنحن نميز بين أهمية ادخار الأموال في العصر الحالي، وبين وضعها في مكان ما تحت الأرض ككنز مخفي خوفا من اللصوص وقطاع الطرق، لعدم توفر ما يكفي من الأمن والاستقرار في العصور الخوالي. كما نثمن عملية انتقال أموالنا إلى زبنائنا الكبار من تجار بالجملة داخل بلادنا وخارجها، إذ لا يعقل أن نحمل معنا كمستوردين ملايين من الدراهم بالعملة الصعبة في جيوبنا أو في محفظاتنا لأداء ثمن مشترياتنا.
وللمودع أمواله في المصارف أن يرفض التعامل الربوي، بحيث إنه يتنازل بكامل حريته عما يمكن أن يعود عليه ادخارها فيها من “فوائد”. تكفيه الاستفادة من حفظ ماله وضمان عدم المساس به، وحرية سحب المبلغ الذي يريد سحبه منه متى شاء وحيث شاء.
فالأهم عندنا تحديدا هنا هو أننا أمام ثوابت، جرى تغيير وجه من وجوهها لفائدة المواطنين. وكل مواطن حر ومسؤول في اتخاذ القرارات التي تهم حياته الاقتصادية والمالية والدينية والمجتمعية داخل الحدود القانونية الجاري بها العمل.
فإن رفض التعامل مع أية جهة بنكية فله أن يفعل. وإن فضل حمل الملايين معه كتاجر كلما رغب في السفر بعيدا لاستيراد ما يريد استيراده فله ذلك. وإن فضل وضع مدخراته فيما يعرف بالصندوق الحديدي داخل متجره أو داخل بيته فله ما فضله..
ولو أن الحتمية الاقتصادية تحد من الحريات كما سبق الذكر. فالمقبل منا على تصدير منتوج فلاحي أو صناعي، ملزم بالخضوع لقوانين تضبط عملية التصدير والاستيراد! إلى أخرى تضبط عملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.
وحرية المواطن ومسؤوليته في السياق الذي نحن بصدد تسليط بعض الأضواء عليه، يتحمل وحده تبعاتهما، فللحرية تبعات، وللمسؤولية بعد القيام بفعل أو بأفعال تبعات. ففرق شاسع بين من يوظف ثروته لفائدة وطنه ولأبناء وطنه في حدود الضوابط والالتزامات، وبين من يوظفها لمجرد الإثراء على حساب حرمان الآخرين من حقوقهم القانونية والشرعية في تلك الثروة بالذات.
يعني أن كل تغيير في المجالين المادي والمعنوي، مشروط بعدم إلحاق الضرر عمدا بأي كان، حتى وهو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بوذي! وكيف إذا كان من بني جلدتنا، يحمل نفس المعتقدات ونفس الخصوصيات، ونفس اللغة، ونفس التاريخ المشترك، ونفس الطموحات التي تصب جميعها في خانة إسعاد الأمة بكاملها.
يقولون: “إن الحب أعمى، ولكن حبي أنا بصير”! إنها حكمة تتعلق بذاكرتي منذ الستينات من القرن الماضي، قرأتها لكاتب هندي أو لكاتب باكستاني لم أعد أتذكر، إنما لبلاغتها من حيث الدلالة، وحتى من حيث الصياغة، أتيت بها للتأكيد على حقيقتين واقعيتين أصر المتعلقون بما يعتبر عندهم أداة مشروعة للتحرر من كافة القيود القانونية والأخلاقية والدينية على وضعهما أمام أعين شعبنا كعلامتين للتقدم لا بد من القبول بهما وإلا تم استمرار نعتنا بعبيد الرجعية والغوغائية والتخلف!
1- اعتبار الحرية سلاحا لا أشد منه فتكا بمعنويات وبقيم مغربية بائدة تالدة! دون أن نتبين نحن كمتتبعين ملاحظين، ما الذي يمكن أن يجنيه المغاربة من وراء الفتك بها لإحلال أخرى مكانها، حتى لا نتهم بكوننا متخلفين أنانيين استبداديين؟
2- تقدمية الدولة وعصرنتها وحداثتها واعتبارها مدنية أو وطنية، لا تصح كخصوصيات لها جديدة، ما لم تفتح كل أبواب الحرية للجيل الذي لم تعد تجدي بينه وبين الماضي كرابط أحكام قيمية! بنيت على التقاليد والأعراف، أو بنيت على الدين والعقل والتجارب الواقعية والتاريخية الماضاوية المتجاوزة كما يقولون!
وللبحث بقية ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *