نقطة التحول إلى اللادينية.. نظرية داروين

عرضنا في المقالين السابقين إرهاصات وأحداث الثورة الفرنسية، ونتائجها على الصعيد الداخلي والخارجي، وأشرنا كذلك إلى التدخل اليهودي في تلك الثورة، وكيف ساهم هذا التدخل في تحول مسار الثورة الفرنسية إلى ما يخدم اليهود وتطلعاتهم.
واليوم نعرض أحد أهم النظريات التي كان لها أكبر الأثر في التاريخ الأوروبي جملة، بل لا نبالغ إن قلنا: إن النتائج التي ترتبت على تلك النظرية من ناحية الآثار الفكرية والاجتماعية لا من الناحية العلمية؛ تجعل هذه النظرية من أهم النظريات في التاريخ، لا بسبب ما توصلت إليه، ولكن بسبب ما أثمرته من فكر في المجالات الحياتية الأخرى.
فعلى الرغم من الثورة الفرنسية، ونظرية “إسحاق نيوتن” التي فسرت كل شيء تفسيرًا ميكانيكيًا، كذا النظريات الفلسفية وانتقادات “سبينوزا” و”فولتير” الشديدة.
على الرغم من ذلك كله لم يكن ليسمح لأي مفترض أو متكهن بأن يتنبأ بانهيار كامل للمسيحية قبل قرون عدة، فقد بقيت رغم الطعنات النافذة كيانًا قائمًا تدعمه عواطف الأغلبية من الناس، وتسانده موروثات عميقة الجذور من القيم والمثل والتقاليد، حتى وهم يثورون على الكنيسة ويعانون من طغيانها العام.
ولكن جاءت نظرية “داروين” لتضرب كل تلك الثوابت التي عاش عليها الأوروبيون قرونًا عدة، وذلك من خلال نظرية التطور.
ففي سنة (1859م) نشر الباحث الإنجليزي “تشارلز داروين” كتابه (أصل الأنواع)، والغرض الذي يدور حوله الكتاب هو افتراض تطور الحياة في الكائنات العضوية من السهولة وعدم التعقيد إلى الدقة والتعقيد، وتدرجها من الأحط إلى الأرقى، وأن الفروق الخلقية داخل النوع الواحد تنتج أنواعًا جديدة مع مرور الأحقاب الطويلة، ولذلك يفترض “داروين” أن أصل الكائنات العضوية ذات الملايين من الخلايا كائن حقير ذو خلية واحدة.
وحسب قانون (الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب) نمت الأنواع التي استطاعت التكيف مع البيئة الطبيعية ومصارعة الكوارث المفاجئة، وتدرجت في سلم الرقي في حين هلكت الأنواع التي لم يحالفها الحظ في ذلك.
وعلة ذلك أن الطبيعة -حسب تعبير “داروين”- وهبت بعض الكائنات عوامل البقاء ومؤهلات حفظ النوع بإضافة أعضاء أو صفات جديدة تستطيع بواسطتها أن تتواءم مع الظروف الطارئة، وقد أدَّى ذلك إلى تحسن نوعي مستمر نتج عنه الإنسان.
ثم تم تصور أنه من خلال العملية التي سماها عملية (التطور) سارت الحياة في سلسلة طويلة من الرقي التدريجي بدأت بالكائن الوحيد الخلية وانتهت بالإنسان!!
وقال “دارون” فيما قال وهو يشرح نظريته: إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق، وقال كذلك: إن الطبيعة تخبط خبط عشواء.
ذلك بإيجاز شديد هو لب النظرية التي طلع بها “داروين” في ذلك الكتاب، وهي في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، كما أنها بعيدة عن أن تكون حقيقة علمية ثابتة، ولقد قال عنها اثنان من أساطين علم الأحياء في القرن الماضي، وهما: “أوين1 في إنجلترا، و”أغاسيز”2 في أمريكا: (إن الأفكار الداروينية مجرد خرافة علمية وأنها سوف تنسى بسرعة).
ولكن مكمن خطورة النظرية لا يكمن في كونها مجرد فرض علمي بيولوجي لكن فيما يترتب على هذا الفرض من نتائج.
فالنظرية التي تقرر حيوانية الإنسان وماديته، بمعنى أن الظروف المادية المحيطة به هي التي أثرت في تطوره وإعطائه صورته، والتي تنفي القصد والغاية من خلقه، وتنفي التكريم الرباني له بإفراده بين الكائنات الأخرى بالعقل والقدرة على الاختيار والقدرة على التمييز فضلاً عن المزايا الأخرى الإنسانية.
إن نظرية كهذه يمكن أن تعطي إيحاءات خطيرة في كل اتجاه.
فحين يكون الإنسان حيوانًا أو امتدادًا لسلسلة التطور الحيواني فأين مكان العقيدة في تركيبه، وأين مكان الأخلاق، وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية… إلخ؟
وحين يكون حيوانًا، أو امتدادًا لسلسلة التطور الحيواني، فما مقياس الخطأ والصواب في أعماله؟ وكيف يقال عن عمل من أعماله إنه حسن أو قبيح، جائز أو غير جائز.. بعبارة أخرى: كيف يمكن إعطاء قيمة أخلاقية لأعماله؟
وحين يكون حيوانًا أو أمتدادًا لسلسلة التطور الحيواني، فما معنى الضوابط المفروضة على سلوكه؟ وما معنى وجود الضوابط؟
وفي المقال القادم إن شاء الله سنتناول موقف الكنيسة من النظرية، والظروف التي نشأت فيها، واستغلال اليهود لها وموقف العلماء الآخرين منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: روبرت أوين (1771-1858م) مفكر اشتراكي بريطاني وصناعي ثري، أنشأ أولى التعاونيات الاستهلاكية، وعالم أحياء إنجليزي، من أساطين علم الأحياء في القرن التاسع عشر.
2: صاحب نظرية (التولد الذاتي) التي اشتهرت في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهو عالم أحياء أمريكي من أساطين علم الأحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *