المحطة قبل الأخيرة.. ما آل إليه الحال

وبعد أن استعرضنا الواقع النهضوي الحديث، ومساهمة نظرية التطور في صياغته، وما بني عليها من نظريات -خاصة ما كان لليهود مساهمة فيها- في المجالات الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، كذلك ما صاحبه من إشارة موجزة للواقع الرأسمالي الصناعي الجديد، الذي دخلته أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
وبعد أن رسمنا صورة شبه متكاملة العناصر عن الفكر الغربي الحديث، وما كان من أسباب ودوافع في تكونه؛ بقي لنا أمران:
الأمر الأول: يجب أن نعلم أن الاتجاه المادي في تفسير العلوم، والذي يستمد أصله من نظرية التطور، لم يكن قاصرًا على علماء اليهود الثلاثة فقط؛ فقد جاء الكثير من بعدهم -بل ومن قبلهم أيضًا- بأفكار مماثلة أو ربما أكثر غلوًا وتطرفًا، وإنما اقتصرنا على ذكر هؤلاء وإن لم يكونوا أول من رسخ فكرة التطور والمادية؛ لأنهم قاموا بذلك من منطلق أيدلوجي عقدي يهودي بالدرجة الأولى.
كذلك لم يكن الاتجاه المادي قاصرًا على المجالات العملية التي ذكرناها فقط -الاقتصادية والنفسية والاجتماعية- بل شمل ذلك السياسة والعلم التجريبي والفن والأدب، وغيرها من المجالات.
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
من الذين كتبوا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وعلم النفس:
آدم سميث1.
ومن الذين كتبوا في غيرها:
ميكافيللي2 في المجال السياسي.
نيتشه3 ودانتي4 وسارتر5 في مجال الأدب.
الأمر الثاني (وهو الأهم): ما آل إليه حال المجتمع بعد هذا كله
لقد أصبح المجتمع الأوروبي الجديد يرتكز على ثابتان أساسيان، وهما: التطور، والعداء للدين والأخلاق.
مما أوجد في النفسية والعقلية الأوروبية عدة مرتكزات وثوابت:
1- الربط بين هذا التحلل الديني والانحلال الخلقي وبين التطور، والإيحاء بأن هذا التحلل والانحلال أمر حتمي؛ لأن التطور حتمي لا قِبَل لأحد بوقفه عن طريقه المحتوم، فقيود الأخلاق ينبغي أن تحطم لأنها تعوق التطور، وقد تقيدنا بها في الماضي في المجتمع الزراعي؛ فينبغي أن نطرحها اليوم من المجتمع الصناعي المتطور (ماركس).
أو تقيدنا بها نتيجة الجهل الخطير بحقيقة النفس الباطنية، وبأن الأخلاق كبت ضار بكيان الإنسان (فرويد).
أو تقيدنا بها جهلاً منا بأنه لا توجد حقيقة ثابتة للقيم الخلقية، إنما هي تتطور بتطور وسائل الإنتاج (ماركس) أو بتطور حالة المجتمع (دوركايم).
2- العداء للدين، فهو قيد آخر يعوق التطور، وقد ورثناه من أسلافنا في عماية وجهالة وجمود وتأخر، وقد كان هذا كله يناسب المجتمع الزراعي المتأخر، ونحن اليوم في المجتمع الصناعي المتطور الذي لا يطيق هذه الخزعبلات (ماركس).
أو قد كان هذا يناسب عصر الجهالة السابق، يوم كنا نظن الدين شيئاً له قداسة، منزلاً من السماء، قبل أن نعرف أنه كبت جنسي ضار مؤذ منفر (فرويد).
أو يوم ظننا -خطأ منا وجهالة- أنه فطرة إنسانية (دوركايم).
3- ينبغي أن ننشئ لأنفسنا المجتمع الجديد، المتطور، المتحرك، الوثاب، ينبغي أن ننطلق مع وثباته الظافرة بلا دين، بلا أخلاق، بلا تقاليد، فهذا هو السبيل الوحيد للتقدم الصحيح (ماركس وفرويد ودروكايم).
وهكذا أخذ خط الانحراف في الابتعاد عن الصواب، وبدأت اللادينية (العلمانية) في الانتشار شيئًا فشيًا، ولا شك في أن انتشار العلمانية وتجذرها في شتى المجلات كان له عدة أسباب:
1. اليهود: والذين عملوا على نشر تلك الأفكار وساعدهم على ذلك سيطرتهم على مجريات الاقتصاد والإعلام العالمي.
2. وقوع العالم في ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية: إذ “تحررت” المرأة أكثر وأكثر، واضطرت في كثير من الأحيان إلى العمل والمتاجرة بعرضها للحصول على الطعام والشراب.
3. العدائية للدين ولكل ما يقترب منه من قريب أو من بعيد.
وربما -وبعد كل تلك المحطات التي وقفنا عليها في تلك السلسلة -نستطيع أن نفهم الآن الكثير من الأفكار والنظريات الغربية بعد أن أشرنا إلى جذورها، ولكن يبقى لنا محطة أخيرة في تلك السلسلة، وهو بعنوان “البداية”.
………………………………………………….
-1 آدم سميث، منظر اقتصادي إنجليزي قوي التأثير في علم الاقتصاد العلماني المعاصر، له كتاب (ثروة الأمم) يعتبر أهم المؤلفات الاقتصادية وأبعدها أثراً.
2- ميكافيللي نيكولو، سياسي وفيلسوف إيطالي، صاحب كتاب (الأمير)، وصاحب مقولة: الغاية تبرر الوسيلة، (1469-1527م).
3- نيتشه فريدريش فلهلم، فيلسوف ألماني، ولد في روكن ببروسيا، كان من مؤسسي العرقية الجرمانية، يتلخص مذهبه بما يدعى “إرادة القوة”، من كتبه: “نشأة المأساة” و”روح الموسيقى”، (1844-1900م).
4- دانتي، من شعراء إيطاليا ومن رجالات الأدب العالمي، صاحب (الكوميديا الإلهية)، وصف فيها طبقات الجحيم والفردوس في سفرة وهمية قام بها، (1265-1321م).
5- جان بول سارتر، فيلسوف وروائي فرنسي (1905-1980م) من رواد الوجودية، يصف في كتاباته الإنسان بأنه كائن مسئول ولكنه وحيد يعيش في كون لا معنى له، من مؤلفاته الفلسفية (الوجود والعدم)، ومن مسرحياته (الذباب) و(الفاجرة المحترمة)، رفض قبول جائزة نوبل في الأدب لعام (1964م).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *