يذكر أن من الأسباب التي دفعت الوزير ابن يونس البغدادي الحنبلي (ت 593 هـ) إلى محاكمة المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني البغدادي (ت 611 هـ) أنه كان خصما له، وبينه وبين أسرة الركن عبد السلام عداوة قديمة، هذا فضلا على أن السبب الرئيسي المعلن عنه هو اتهامه بتعطيل الصفات واعتقاد عقيدة الفلاسفة.
وأما في المغرب الإسلامي فقد عثرت على ثلاثة حوادث أُحرقت فيها كتب الفلسفة، أولها أن الحاجب أبا عامر بن أبي عامر الأندلسي (ت 393 هـ) لما آلت إليه مقاليد الحكم الأموي بالأندلس -زمن الخليفة الصبي هشام بن الحكم- عمد إلى خزانة كتب الخليفة المُتوفى: الحكم المستنصر، وأخرجها وفرز منها كتب الفلسفة، وكانت كثيرة جدا، فأحرق منها مجموعة وطمر أخرى بمشهد من العلماء، فعل ذلك تقبيحا للخليفة الحكم المُغرَم بجمع كتب الفلسفة. وقيل أن سبب إحراقه لها رغبته في التقرّب إلى العوام، مع اشتغاله هو بها شخصيا في الخفاء.
والثانية هي أن السلطان المرابطي أبا الحسن علي بن يوسف ين تاشفين (ت 537هـ) كان شديد الكره للفلسفة وعلم الكلام، فأمر بحرق كتبهما ومعها كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، لما فيها من كلام وفلسفة، وتوعّد بالقتل لمن يُخفي تلك الكتب.
وثالثها هي أن السلطان الموحدي أبا يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن (ت 595هـ) -الظاهري المذهب- عندما غضب على الفيلسوف ابن رشد الحفيد، أمر بحرق كتب الفلسفة، ونهى عن الاشتغال بها، وتوعّد من وجدها عنده بالعقاب الشديد، واستثنى منها كتب الطب والحساب وما ينفع من علم النجوم في الصلاة؛ لحاجة الناس إليها في دينهم ودنياهم، لكن الغريب من أمر هذا السلطان ما رُوي أنه عندما غضب على ابن رشد في قرطبة ورحل إلى مدينة مراكش، غيّر موقفه من الفلسفة، فأقبل على دراستها، واستدعى إليه ابن رشد للعفو عنه، والإحسان إليه. ولم أعثر على سبب تحوله من عدو للفلسفة إلى محب لها.
وأما بالنسبة لمنع بيع كتب الفلسفة، فقد عثر على رواية واحدة فقط، فيها أن الخليفة العباسي المعتضد بالله (ت 289 هـ) أمر الوراقين والكتبيين بعدم بيع كتب الفلسفة والجدل، واستحلفهم على ذلك. وفعله هذا استحسنه الحافظ شمس الدين الذهبي.
ويُستنتج مما ذكرناه أن عمليات حرق كتب الفلسفة ومنع بيعها وتداولها بين الناس وأهل العلم، تمت على أيدي السلاطين ورجالهم، وتحت رعايتهم، لأنهم هم الذين يملكون قوة التغيير والتنفيذ. وتلك العمليات هي حوادث قليلة جدا بالنظر إلى اتساع رقعة العالم الإسلامي، وطول الفترة الزمنية التي تزيد عن عشرة قرون. لكنها تدل على وجود مقاومة سنية للفلسفة اليونانية ساهم فيها بعض الخلفاء والسلاطين وأعوانهم، لكنها تشير من جهة أخرى إلى انتشار تلك الفلسفة بين طائفة من أهل العلم، حتى استدعى الأمر تدخل السلطان لحرق مصنفاتها ومنع بيع كتبها والاشتغال بها. لكنها -أي تلك العمليات- ساهمت أيضا في إضعاف نفوذ الفلسفة ورجالها، دون أن تقضي عليها وعلى تراثها وأتباعها.
ثانيا: منع دراسة كتب الفلسفة و تدريسها
أفتى الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، أنه من الواجب على السلطان أن يُخرج أهل الفلسفة المشائيم من المدارس ويُبعدهم عنها، ويدفع شرهم عن المسلمين.
ومما يُعبر عن دعوة ابن الصلاح أن المتكلم المتفلسف سيف الدين الآمدي (ت 631هـ) عندما درّس بالمدرسة العزيزية بدمشق، أخرجه منها الملك الأشرف موسى بن العادل الأيوبي (ت 631هـ)، لاشتهاره بتدريس علوم الأوائل، وكره هذا الملك لها، فأقام الآمدي في بيته خاملا إلى أن مات. وفيه أفتى ابن الصلاح أن أخذ المدرسة العزيزية منه، أفضل من استرجاع مدينة عكا، التي كانت آنذاك بيد الصليبيين.
وقوله هذا يبدو أنه بناه على أساس أن مدينة عكا أمرها واضح، يحتلها الكفار الصليبيون، وسيسترجعها المسلمون منهم يوم يقدرون عليهم. لكن ما يقوم به السيف الآمدي من تدريس للفلسفة في المدارس السنية هو -في نظر ابن الصلاح- عمل داخلي خطير جدا، يؤدي إلى إفساد الدين وتخريب الفكر الإسلامي السني، والتمكين للفلسفة بأباطيلها وضلالاتها في المجتمع الإسلامي.
والحادثة الثانية، هي أنه لما استولى الملك الأشرف موسى بن العادل على مدينة دمشق سنة 626 هـ، نادى مناديه بأنه لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نُفي من البلد، وكان هذا الملك يكره العلوم القديمة.
فهاتان الحادثتان مرتبطتان بالملك الأشرف، في موقفه من الفلسفة اليونانية وتصرّفه مع أهلها، ولا تدلان بالضرورة على أن الذين سبقوه كانوا على شاكلته، وإن كان إخوته هم أيضا يكرهون علوم الأوائل؛ لكن الذي كان قبله -أي الملك المعظم- هو الذي مكّن للسيف الآمدي، وولاه التدريس بالمدرسة العزيزية بدمشق.
وهما يدلان أيضا على أن السنيين استخدموا منع دراسة كتب الفلسفة وتدريسها وسيلة لمقاومة الفلسفة اليونانية، التي هي أيضا ظلت تقاوم وتنتشر حتى درّسها السيف الآمدي بالجامع الظافري بمصر.