سلسلة كيف تكون الفكر الغربي.. تحريف الشريعة البدع المستحدثة في دين النصارى

لما كانت تحريفات الكنيسة تخبطات عشوائية لا ترتكز على قواعد محددة، وليس لها ضوابط رادعة؛ فقد ظل المجال فسيحًا لإضافات أكثر وثغرات أعمق، وكان للمطامع الدنيوية والرغبات الشخصية الفضل الأكبر في دفع الموجة قدمًا وتوجيهها كما يراد، فكان من أهم البدع المستحدثة:
1- رجال الدين. 2- الرهبانية. 3- عبادة الصور والتماثيل. 4- صكوك الغفران.
5- الأسرار المقدسة.

أولاً: رجال الدين “الإكليروس”
إن طبقة رجال الدين التي ظهرت في الديانة الجديدة لأوروبا ليست سوى امتداد للسحرة والكهان في المرحلة التاريخية التي كان لهؤلاء سلطان وقوة على الأفراد، ولقد ظل رجال الدين يقومون بالمهمة نفسها التي كان يتولاها أولئك من قبل، والفارق الوحيد هو أن رجال الدين يستمدون سلطتهم من الدين، بينما يستمدها السحرة والكهان من السحر.
يقول المؤرخ الإنجليزي “ويلز” في معرض الفرق بين نصرانية المسيح ونصرانية الكنيسة: “إن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين، وهي لم تكن كهنوتية، ولم يكن لها معبد مقدس حبسًا عليها ولا هيكل، ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس، وكان قربانها (قلبًا كسيرًا خاشعًا)، وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ، وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة.
بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين، وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل (كنواة لها)، كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين، وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة، والعمل الجوهري في العبادة فيها هو: القربان الذي يقربه قسيس متكرس للقداس، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة”(1).
وكان من الأسس الباطلة التي بنى عليها رجال الدين مبررات وجودهم مبدأ (التوسط بين الله والخلق)، الذي يقتضي ألا يذهب الإنسان إلى رجل الدين ليعلمه كيف يعبد الله، بل ليعبد الله بواسطته، وليس للمذنب أن يتجه بتوبته إلى الله طالبًا الصفح والمغفرة، بل عليه أن يتجه إلى رجل الدين معترفًا أمامه بذنبه، ليقوم بالتوسط لدى الله فيغفر له، وحسَب هذا المبدأ نصَّب رجال الدين أنفسهم أندادًا لله تعالى، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31]، وفوق كونه مبدأ باطلا شرعًا، ساقطًا عقلا، فإنه ليس في الأناجيل -رغم تحريفها- ما يدل على أن المسيح أقره أو دعا إليه.
وبررت الكنيسة هذه الوساطة بما جاء في “إنجيل متى” أن المسيح عليه السلام قال لبطرس كبير الحواريين: “أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات”(2)، ففهمت الكنيسة من هذا القول: أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع وتحكمه باسم المسيح، وبما أن المسيح بطرس -كما تقول الكنيسة- مات في روما؛ فإن روما هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله “البابا” المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره هذه الكنيسة هو عين الصواب.
وبعيدًا عن أن هذا القول يصادم التوحيد الذي أتت به الرسل، فلا يمكن أن ينسب إلى الديانية الربانية السماوية، خاصة بعد قراءة ما بعد هذا القول المنسوب إلى المسيح بثلاث فقرات فقط، وهو يخاطب بطرس قائلاً: (اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس..)، فكيف يتسق هذا الوصف وتلك التهمة مع الهبة السابقة، والتكريم الذي لا حد له؟
ثم لماذا تنظر الكنيسة إلى هذا القول وأضرابه، وتغض الطرف عن مثل قول المسيح الصريح: “رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم” وقوله: “أحبوا أعداءكم أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لأعينكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم” (3).
وقد ترتب على هذا المبدأ آثارًا خطيرة للغاية، منها: احتكار رجال الدين لحق قراءة وتفسير الإنجيل، ثم استحداث صكوك الغفران، وكذلك الانشقاقات الدينية المتوالية التي دمرت الحياة بصفة عامة، وأخيرًا كان هذا المبدأ إحدى الحجج التي سلها ملاحدة القرن السابع عشر فما بعد، في وجه الشرائع عامة والنصرانية خاصة.
ونتابع -بإذن الله تعالى- في المقال القادم باقي البدع المستحدثة في الشريعة النصرانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- معالم تاريخ الإنسانية [3/720].
(2)- إنجيل متى [16/19،20].
(3)- إنجيل لوقا: [6/28].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *