رجل الدين أصبح قيصرًا… الطغيان السياسي للكنيسة

تكلمنا فيما سبق عن صور الطغيان المالي للكنيسة، وكيف كان أثر ذلك خاصة على الفقراء وأصحاب الحرف المتواضعة.

وفي هذا المقال نعرض صورة للطغيان والتسلط الكنسي لم يكن المتضرر الأول منها طبقات الشعب المعدمة، بل كان أكثر الناس تضررًا من ذلك هم الملوك والأباطرة.
فإن كانت الكنيسة قد زعمت أن المسيح عليه السلام قد أعطى قيصر وحكمه شرعية الوجود، حين وضعت على لسانه هذه الكلمات: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، وفسرتها- عمليًا- بترك القانون الروماني يحكم العالم النصراني بدلا من شريعة الله؛ إلا أن الواقع كان مغايرًا تمامًا لذلك.
فقد ادعت الكنيسة لنفسها سلطة دنيوية [أو زمنية] كما يسمونها في التاريخ الأوروبي وكانت تطلب -وتمارس- سلطانًا شخصيًا بحتًا، وأرضيًا بحتًا، هو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرؤوس وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها.
ولكي يستطيع رجال الدين أن يكون لهم تلك السلطة على الملوك والأباطرة أنفسهم فقد كانوا سابقين لعصرهم في ناحية مهمة وهي الناحية التنظيمية، إذ كانوا مؤسسة تنظيمية مركبة تركيباً عضوياً دقيقاً، من القاعدة العريضة الممتدة في كافة الأصقاع والأقاليم إلى قمة الهرم المتمركزة في روما، وهذه الميزة أكسبتهم نفوذاً مستمراً لا يقبل المنافسة وجذوراً عميقة يصعب اقتلاعها.
إضافة إلى ذلك كان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان في إمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ولم يكن باستطاعة أحد الانفلات من ذلك، ومن رفض الرضوخ فإن حكمه غير شرعي، ومن حق البابوية أن تعلن الحرب الصليبية عليه وتحرم أمته.
ولذلك فشل الكثير من الأباطرة والملوك المتمردين على الكنيسة في مواجهتها.
وعلى الجانب الآخر كان ملوك أوروبا يضيقون ذرعاً بتدخل الكنيسة المتعنت في كل شؤونهم ولم يكن يسكتهم عن ذلك التسلط السياسي إلا الحفاظ على مناصبهم ومراكزهم.
يقول فيشر: “كانت الأسر الحاكمة في أوروبا تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القديسين، فيرثون منه قداسته ولا يبالي الشعب بعد ذلك بتصرفاتهم لأنهم مقدسون” (تأريخ أوروبا في العصور الوسطى، 1/71).
ويروي فيشر قصة الصراع بين البابا “هلد براند” أو جريجوري السابع و”هنري الرابع” إمبراطور ألمانيا فيقول: (..ذلك أن خلافًا نشب بينهما بين البابا والإمبراطور حول مسألة التعيينات أو ما يسمى التقليد العلماني فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الإمبراطور، وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألَّبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا، فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط، واستجمع شجاعته وسافر مجتازًا جبال الألب والشتاء على أشده؛ يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات كانوسا -قلعة في إيطاليا- في تسكانيا -منطقة تقع في ألمانيا-، وظل واقفًا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان متدثرًا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس يحمل عكازه، مظهرًا كل علامات الندم وأمارات التوبة، حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا” (تاريخ أوروبا 1/260).
وأعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة وتدخلاتها السياسية، واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة، هو الإمبراطور “فردريك الثاني” أكبر إمبراطور في العصور الوسطى الأوروبية، كان في عصر الكامل الأيوبي، وجاء إلى الكامل الأيوبي، تقابلا في فلسطين وتخاطبا باللغة العربية الفصحى بدون مترجم، وتعود صلابته إلى المؤثرات الإسلامية في ثقافته وشخصيته، فقد كان مجيداً للعربية مغرماً بالحضارة الإسلامية، حتى أن الكنيسة اتهمته باعتناق الإسلام وسمته “الزنديق الأعظم”، أما المفكرون المعاصرون فيسميه بعضهم “أعجوبة العالم” وبعضهم “أول المحدثين”.
وقد اشتد النزاع بينه وبين البابا “جريجوري التاسع” بسبب رفضه القيام بحملة صليبية على الشرق، فحرمه البابا وشهر به في رسالة علنية عدد فيها هرطقاته وذنوبه.
فاستبدلت أوروبا في الحقيقة طغيانًا بطغيان مع فارق واحد، أن الطغيان الجديد يبعد تدريجيًا ويبعد الناس معه عن سلطان الدين، وفضلا عن ذلك فقد كان انشقاق الملوك عن سلطان البابا يتخذ شكلا قوميًا متزايدًا، تسانده العوامل الأخرى -السياسية والاقتصادية- التي أحاطت بأوروبا وشجعت على ظهور القوميات، التي كان لها دور كبير في بروز الصراعات الحادة في أوروبا أولا، ثم في العالم كله في صورة حروب استعمارية فيما بعد.
هذه هي صورة الطغيان السياسي للكنيسة، التي كان المتضرر منها في هذه الحالة أصحاب الكراسي والمناصب.
وفي المقال القادم سنعرض إن شاء الله تعالى أحد صور التسلط لرجال الكنيسة على عقل المجتمع الغربي، والتي -وبلا مبالغة- كانت هي السبب الرئيسي في قيام الثورة العامة ضد الكنيسة ومعتقداتها وهو الطغيان العلمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *