وبما سبق ذكره يتبين لنا أنه لا أهل الفلسفة قاموا بفصل علوم الطبيعة والرياضيات عن إلهيات اليونان ومنطقهم، ولا أهل السنة قاموا بذلك العمل، فلماذا لم يقم به ولا أحد من هؤلاء؟ ليس لي إجابة شافية كافية عن هذا التساؤل، ولم أعثر له على جواب في تراثنا الإسلامي، لكن ربما أن الفلاسفة لم يفعلوا ذلك لسببين رئيسيين، أولهما تعصبهم للفلسفة اليونانية وحرصهم على التمسك بها حفاظا عليها، وثانيهما نظرتهم الضيقة لعلوم الطبيعة والرياضيات، التي -ربما- لم يتصوروا إمكانية انفصالها عن فلسفة اليونان.
وأما علماء أهل السنة، فربما صرفهم عن القيام بفصل علوم الطبيعة عن إلهيات اليونان ومنطقهم، سببان رئيسيان، الأول نظرة الازدراء والتخوّف والتحذير التي كانوا ينظرون بها لفلسفة اليونان، وثانيهما إهمالهم لعلوم الطبيعة ومبالغتهم في الإقبال على علوم الفقه والحديث والآداب، والتركيز على مظاهرها لا على روحها، وقد أشار إلى ذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بأسف شديد، فذكر أن أهل العلم في زمانه بالغوا في الإقبال على الفقه والخلاف والجدليات، وتركوا علم الطب لأهل الذمة؛ فترخّصوا في الاشتغال بفرض كفاية قام به جماعة، وأهملوا علم الطب الذي هو فرض كفاية لا قائم به والحاجة إليه ماسة، ثم قال: إن السبب في ذلك أن هؤلاء تركوا الطب لأنه لا يتيسر لهم به الوصول إلى مناصب القضاء والأوقاف والوصايا وحيازة أموال الأيتام، أما بالفقه فيتيسر لهم به الوصول إلى ذلك.
وأما التساؤل الثالث وهو عن عمل المتكلمين المتأخرين في إدخال المنطق المشائي إلى علوم الشريعة، فهل هو نموذج للفصل المطلوب بين علوم الفلسفة؟، فأقول: ليس ذلك فصلا للمنطق عن فلسفته، فقد ظل مرتبطا بها ويمثل قسما هاما من أقسامها، وإنما الذي حدث هو عملية اقتباس ومزج وإدخال بعض مما في المنطق في أصول الفقه، وهذا ما فعله الغزالي في المقدمة المنطقية التي ألحقها بكتابه المستصفى في علم الأصول.
لكن لو تمّ ذلك في علم من علوم الطبيعة لعُد خطوة هامة نحو الفصل المطلوب، أما وأن الذي حدث مع المنطق على ما ذكرناه، فلا يُعد ذلك فصلا نموذجيا للعمل المطلوب إحداثه لفك ارتباط علوم الطبيعة بإلهيات اليونان ومنطقهم؛ هذا فضلا عن الذي قلناه في الفصل الثاني من أن منطق المشائين منطق عقيم، ومنطق الشريعة أحسن منه وهي في غنى عنه، والبشر لا يحتاجونه.
وأما التساؤل الأخير، وهو عن آثار عدم فصل علوم الفلسفة على المسلمين، فهي كثيرة أولها هيمنة النظرة اليونانية على العلوم الطبيعية والرياضية، وغياب النظرة الإسلامية القائمة على التوحيد والاستقراء والتجربة والنظرة العلمية الشرعية لمظاهر الكون، وثانيها كثرة الانحرافات الفكرية والوجدانية والسلوكية لدى معظم الفلاسفة المسلمين، من جراء تأثرهم السيئ بإلهيات اليونان.
وثالثها نفور كثير من أهل العلم المسلمين من علوم الطبيعة والرياضيات والفلك وإهمالهم لها، بسبب ارتباطها بإلهيات اليونان المليئة بالضلالات والشّركيات والمنكرات، فكان ذلك سببا في صد هؤلاء عن تلك العلوم وتركها لأهل الذمة، حتى أننا وجدنا الطبيب النصراني يُوحنا بن ماسويه يخدم ستة خلفاء من بني العباس، وهم: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، فأين الأطباء المسلمون؟! والمؤسف حقا أن تلك النظرة المزدرية لعلوم الطبيعة ظلت متوارثة طيلة العصر الإسلامي، وما تزال باقية إلى اليوم، نجدها لدى بعض التيارات الإسلامية المعاصرة.
وآخرها إظهار تقصير وعجز الفلاسفة المسلمين وعلماء أهل السنة في القيام بواجبهم الشرعي والعلمي تجاه علوم الطبيعة -بمعناها الواسع- لتخليصها من إلهيات اليونان ومنطقهم العقيم، وتقديمها للمسلمين وغيرهم من الناس، على أساس شرعي علمي صحيح.
وختاما لهذا المبحث أشير هنا إلى أن الذي لم يقم به المسلمون -في عصرهم الذهبي- من فصل لعلوم الفلسفة، فقد قام به الأوربيون في العصر الحديث، فقد فصلوا كل العلوم الطبيعية والإنسانية عن الفلسفة اليونانية، واستقل كل علم بذاته؛ لكنها ما تزال لم تُصف نهائيا، لأن الغرب أدخل فيها جانبا من فلسفته الميتافيزيقية المادية الإلحادية الحديثة ولطّخها بها، كخرافة الصدفة والطبيعة والداروينية، لذا علينا أن نتنبه لذلك ونحذر منه، مع العلم أنه لا توجد علوم إنسانية خالية من تأثيرات أفكار ومذاهب وعقائد المجتمع الذي توجد فيه؛ وحتى العلوم الطبيعية لا يمكن فصلها نهائيا عن تلك المؤثرات.