المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

استخدام الرأي العام لمقاومة الفلسفة و أهلها:
استخدم بعض السنيين الرأي العام الشعبي لمقاومة الفلسفة ورجالها، بالمشرق الإسلامي ومغربه، ففي المشرق رُوي أن بعض أهل الحديث كان يُشنّع على الفيلسوف يعقوب الكندي اشتغاله بعلوم الفلاسفة، ويُغري به العوام، وعندما حوكم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب وأحرقت كتبه، جُمعت العامة لحضور محاكمته، فكانت تصيح بلعنه حتى تعدّى اللعن إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني.
ويُروى أن زنديقا متفلسفا ناظر فقيها في حضرة حامي الفلاسفة ملك بلاد الروم: ركن الدين بن أرسلان (ت 600هـ)، فأظهر الزنديق شيئا من اعتقاد الفلاسفة، فقام إليه الفقيه ولطمه وشتمه ثم خرج، والملك ساكت لم يتكلم؛ فقال له الزنديق: يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره! فقال الملك: لو تكلّمت لقتلنا جميعا، ولا يمكن إظهار ما تريده أنت.
فإن صح هذا الخبر، فهذا يعني أن الملك كان يخاف من رد فعل الناس إن هو تعرّض للفقيه بأي أذى، وبمعنى آخر أنه كان من وراء الفقيه رأي عام شعبي، مؤثر وفعّال اعتمد عليه في تصديه للزنديق المتفلسف في حضرة حاميه الملك ركن الدين.
وأما في المغرب الإسلامي والأندلس تحديدا، فقد كان فيها للعوام نفوذ وسطوة في التصدي للفلسفة وأهلها، فرُوي أن الفلاسفة كانوا يخفون اشتغالهم بالفلسفة وحبهم لها خوفا من العامة، التي كانت إذا قيل لها فلان: (يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه اسم زنديق، وقيّدت أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرّقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرّبا لقلوب العامة، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وُجدت، وبذلك تقرّب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن) المقري: نفح الطيب، ج 1 ص: 212.
ولاشك أن اعتماد أهل السنة على الرأي العام في مقاومتهم للفلسفة اليونانية ورجالها، هو وسيلة فعالة مكنتهم من إيجاد رقابة شعبية داخلية، كان العلماء من ورائها، لكن استخدامهم -أي العلماء- للعوام في التصدي للفلاسفة هو أمر محفوف بالمخاطر، سلبياته أكثر من إيجابياته، فما دخل العوام فيما يجري بين أهل العلم؟
وأية معرفة لهم بقضايا العلم ومداخله؟
وأية معرفة لهم بحدود الحق والباطل؟
وهل كل من درس الفلسفة وأظهر بعض أفكارها هو ضال زنديق يجب قتله وإحراقه؟
وهل يستطيع العوام التمييز بين الفيلسوف المسلم الملتزم والفيلسوف الضال؟
لا شك أن العوام ليس في مقدورهم القيام بكل ذلك، لذا كان من الواجب تحجيم دورهم، ووضع حدود لتصرفاتهم، على أن تكون تحت توجيه وإشراف من العلماء والسلاطين إذا ما احتاجوا إليهم، على أن يتولى العلماء مناظرة المتهمين بالانحراف عن الدين، واستتابتهم وإقامة الحجة عليهم، ثم تُنفذ الأحكام الشرعية بعدالة بعد ذلك بيد السلطان لا العوام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *