نصف الطريق نحو الثورة الفرنسية.. نظرية إسحاق نيوتن

تحدثنا في المقال السابق عن الاضطهاد الذي تعرض له العلماء على يد الكنيسة، والتي استندت بدورها على نصوص واهية في حربها ضد العلم، واليوم نكمل ما تبقى من حرب الكنيسة ضد العلم ونسلط الضوء على الحقبة التي تلت جاليليو وحتى الثورة الفرنسية عام 1789م.

أولا: القرن السابع عشر
في القرن السابع عشر تبلور النزاع واتخذ شكلاً جديداً؛ فقد أصبح النزاع بين تليسكوب جاليلو وحجج الكنيسة الواهية، نزاعاً بين النص الذي تعتمد عليه أدلتها، وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة، وهنا كان الدور الأكبر على الفلاسفة.
وكان مذهب “ديكارت” أبرز المذاهب الفلسفية في هذا العصر، وقد دعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة واستثنى من ذلك الدين والعقائد الكنسية والنصوص المقدسة، وكان يرى (أن ميدان العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال القوى الطبيعية، وأدواته الرياضة والتجربة، ويختص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم، فلا مضايقة بين العلم والدين ولا سلطان لأحدهما على الآخر)1.
وتلك الازدواجية لم تكن إلا مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له.
ومع ذلك فقد تجرأ فلاسفة آخرون فهاجموا الكنيسة بكل صراحة، منتقدين النصوص الواهية التي تعتمد عليها الكنيسة.
وكان سبينوزا -بحكم يهوديته- أعنف هؤلاء، فقد طبق المنهج العقلي على الكتاب المقدس نفسه، ووضع الأسس التي قامت عليها “مدرسة النقد التاريخي” التي ترى أنه يجب أن تدرس الكتب الدينية على النمط نفسه الذي تدرس به الأسانيد التاريخية -أي: على أساس أنها تراث بشري وليست وحياً إلهياً-.
أما “جون لوك” فقد خطا خطوة أبعد من “ديكارت” بأن طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض قائلاً: (من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً فقد أطفأ نور كليهما، وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق)2.
وقد تعرضت كتب “ديكارت” و”سبينوزا” و”لوك” وأضرابها للحرق والمصادرة، كما تعرضوا شخصياً للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة، إلا أن تفجر البركان العلمي في كل مكان والخلافات الداخلية بين الطوائف النصرانية شغلتها عن إعطائهم ما يستحقون من الاهتمام.
وهكذا تتابعت الآراء الفلسفية التي كانت تهاجم الكنيسة بطريق مباشر وغير مباشر إلى أن ظهرت نظرية لـ”إسحاق نيوتن”.
ولا شك أن نظرية “نيوتن” من أعظم النظريات العلمية أثراً في الحياة الأوروبية، فهي التي وضعت الفكر المادي الغربي، وإليها يعزى الفضل الأكبر في نجاح كل من المذهب العقلي والمذهب الطبيعي.
ولد “إسحاق نيوتن” في السنة التي توفي فيها “جاليلو” 1642م، ويعد عمله تتميماً لما بدأه “جاليلو”، فقد مهد اكتشاف “جاليلو” لقانون البندول سنة 1604م الطريق أمام النظرية القائلة: (إنه من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها)3، وبذلك كان هذا الاكتشاف الضئيل بمثابة النواة للمذهب الطبيعي والنظرية الميكانيكية اللذين كان لهما صدى واسع فيما بعد.
وقد حاربت الكنيسة هذه النظرية وشنعت على معتنقيها قائلة: (إن الأشياء لا تعمل بذاتها ولكن عناية الله هي التي تسيرها)، ولم تكن الكنيسة من سعة الأفق على جانب يسمح لها بتفهم عدم المنافاة بين نسبة الأفعال إلى الله تعالى باعتباره الفاعل الحقيقي، وبين نسبتها إلى الأسباب باعتبارها وسائط مباشرة، بل كان حنقها على كل جديد صارفاً لها عن ذلك.
واندفع الفلاسفة والعلماء وراء رد الفعل الأهوج في محاولة للتخلص من تسلط الكنيسة، فأنكروا عمل العناية الإلهية وربط الأسباب بالمسببات، معتقدين أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه حسب تعبيرهم.
فلما جاء “نيوتن” بنظرية الجاذبية مؤيدة بقانون رياضي مطرد؛ انبهرت عقول الفئات المثقفة، واتخذها أعداء الدين سلاحاً قوياً، حتى سميت “الثورة النيوتونية”، وأحس هؤلاء بنشوة انتصار عظيمة، فقد أمكن تفسير الكون كله بهذا القانون، كما تأكدت صحة نظريات “كوبرنيق” و”برونو” و”جاليلو”، وفي الوقت نفسه اهتز موقف الكنيسة وتداعت حججها الواهية أكثر من ذي قبل، ولجأت إلى التعسف والعنف.
والكلام عن آثار النيوتونية ينقلنا إلى القرن الثامن عشر، الذي كان دخوله إيذاناً بأفول نجم الكنيسة وولادة معبودات باطلة جديدة لا كنائس لها وهذا ما سنتطرق له في الحلقة القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، إميل بوترو، ص:19.
2: قصة النزاع، ص: 214.
3: العلوم والدين، ص:19.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *