نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله وصفاته وخلقه للعالم

وأما آخرهم -أي السابع-، فهو الفيلسوف ابن رشد الحفيد يرد على نفسه بنفسه، فقد ذكر في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، خلاف ما نقلناه عنه سابقا، فنصّ صراحة على أن الواحد-أي الله- لا (يعقل إلا شيئا واحدا بسيطا، وهو ذاته، ولا يمكن فيه أن يعقل كثرة ما، لا في ذاته ولا خارجة عن ذاته).
وقوله هذا هو تعبير عن رأيه هو ورأي سلفه أرسطو، وهو نقض لما نقلناه عنه آنفا، فلماذا هذا التناقض، والازدواجية في الخطاب؟!، ففي كتابيه الكشف عن مناهج الأدلة، وتهافت التهافت، اللذين وجههما لجمهور المسلمين، نفى أن يكون الفلاسفة نفوا صفة العلم، وأنكر على الغزالي وخطّأه فيما حكاه عنهم، لكنه في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة ناقض نفسه، وكشف عن حقيقة موقفه وموقف أرسطو وأصحابه من صفة العلم، وأكد ما قاله أهل العلم الذين ذكرناهم قبله، من أن الله عند أرسطو والمشائين، لا يعلم إلا ذاته، فعجبا من ابن رشد، وما فعله في نفسه!!، فلماذا هذا التغليط والتدليس والتحريف؟؟، لماذا لم يكن صريحا مع نفسه ومع الناس؟!، إن سلوكه هذا مارسه كثيرا في مصنفاته، وهو لا يليق بالصادقين من أهل العلم والإيمان، ولا هو من شيمة الأحرار الشجعان.
والثاني هو المحقق ابن قيم الجوزية، ذكر أن الله عند أرسطو وأصحابه المشائين، لا صفة ثبوتية تقوم به، فهو (لا يعلم شيئا من الموجودات أصلا، ولا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات).
والثالث هو الباحث محمد علي أبو ريان، ذكر أن الله عند أرسطو لا يعلم شيئا عن العالم وغافل عنه، والباحث الرابع هو فتح الله خليف، ذكر أن موقف أرسطو من علم الله يتمثل في أن الله (اتحد فيه العاقل والمعقول، فمعقوله هو ذاته، ولا شيء غير ذاته، وبذلك فإن الله يجهل تماما كل ما عداه، أي يجهل العالم).
والخامس هو الباحث مصطفى النشار، ذكر أن الله عند أرسطو هو عقل خالص لا يعقل إلا ذاته، وأما السادس فهي الباحثة أميرة حلمي مطر، ذكرت أن أرسطو كان واضحا في موقفه من صفة العلم، ففرض احتمالين: معرفة الله بذاته،أو معرفته بالأشياء، فاختار الأول وبرره بأن الله إذا عقل غيره، إما (أن يظل كما هو أو يتغير، وما هو معرّض للتغير لا يصلح موضوعا لهذا العقل، لأنه سوف يُسبب له عدم استمرار التعقل، ولا يجوز للعقل الإلهي أن ينفعل بما هو ناقص، لأن هناك من الأشياء ما يكون من الأفضل لنا ألا نراها، لذلك فإن العقل الإلهي لا يعقل إلا ذاته، لأنها أكمل الأشياء، وتعقله لذاته هو اتصال مباشر، أو حدس لا استدلال، ينتقل العقل فيه من مقدمة إلى نتائج، فهو بناء على ذلك عقل، وعاقل، ومعقول في آن واحد، وهذا التعقل الدائم يهبه أسمى أنواع السعادة، فهو في سعادة لا يصل إليها إلا أحيانا نادرة).
وأقول: إن ما نقلته الباحثة عن موقف أرسطو من صفة العلم هو دليل دامغ على أن أرسطو كان ينفي علم الله بغيره خلاف ما زعمه ابن رشد، لكن تبريرات أرسطو في زعمه بأن الله لا يعلم إلا ذاته، هي تبريرات ظنية باطلة، شرعا وعقلا، فأما شرعا فإن النصوص الشرعية كثيرة جدا في أن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم السر وأخفى، كقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) سورة التوبة: 78، و(وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) سورة طه: 7.
وأما عقلا فإن أرسطو قاس الخالق بالمخلوق، وزعم أن علمه بغيره يُسبب له (عدم استمرار التعقل)، وهذا كلام باطل، يدل على فساد تصوّر أرسطو لله تعالى، فجعله كالإنسان تختلط عليه التعقلات، وهذا زعم باطل، لأن الله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة النحل:74، و(لم يكن له كفوا أحد)، وصفاته سبحانه -ومنها علمه- كلها كمال لا نقص فيها.
وعلمه تعالى بذاته فقط نقص، وعلمه بغيره فقط نقص أيضا، والكمال المطلق هو علمه تعالى بذاته وبغيره، وهذا هو الذي يقوله الشرع الصحيح، والعقل الصريح، وأما زعمه بأن تعقل الله لذاته (يهبه أسمى أنواع السعادة، فهو في سعادة لا يصل إليها إلا أحيانا نادرة)، فهذا كلام بلا علم، ورجم بالغيب، وحديث خرافة من خرفات أرسطو، ومُثير للضحك والاستغراب معا، فكيف سمح لنفسه أن يخوض في غيب لا يمكن أن يُدركه؟، ومن أين له ذلك الظن والوهم و الزعم؟، إن ذلك الأمر لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي، فهل كان أرسطو نبيا؟ إنه لم يكن نبيا، لكنه كان مُتبعا لظنه وهواه، وهو من الذين يصدق عليهم قوله تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ) سورة النجم: 23.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *