النتائج العملية لنظرية داروين

تحدثنا فيما سبق عن نظرية داروين، وكيف كان الصراع بين داروين وبين الكنيسة، وألقينا الضوء على بعض النتائج المترتبة على تلك النظرية.
واليوم نسلط الضوء على الآثار العملية التي ترتبت على تلك النظرية، موضحين أثرها الميداني على الفكر الأوروبي الحديث.
أولاً: انهيار العقيدة الدينية
بعد سنة 1859م، أي بعد ظهور نظرية داروين، أصيب العالم بنقص حقيقي في الإيمان -على حد تعبير ويلز- بسبب ما أشاعه أعداء الدين من تفسيرات باطلة لنظرية التطور، والاستغلال البشع الذي قام به المغرضون، والحماس المنقطع النظير الذي استقبلت به النظرية.
ونشبت معركة من أعظم المعارك الفكرية في التاريخ، واشتط أصحاب النظرية في موقفهم، وتطرفوا إلى حد إنكار التصور الديني جملة وإعلان إلحادهم الصريح، كما تطرفت الكنيسة وأشياعها فأعلنت كفر وهرطقة كل من لم يكن في جانبها.
وبالنسبة للكنيسة فقد كان موقفها مهزوزاً منذ البداية، لاسيما وأن الزمن قد أثبت خطأ المواقف التي اتخذتها من النظريات الكونية السابقة، ولذلك خشي الكثير من المتعاطفين معها أن يقعوا في الخطأ نفسه، ناهيك عن الأعداء الذين شهروا بالدين ورجاله أشنع تشهير.
ثانياً: نفي فكرة الغاية والقصد
من الحقائق التي تتطابق عليها الأديان وتتضافر على الإيمان بها العقول والفطر السليمة؛ أن للوجود الإنساني على الأرض غاية مقصودة أرادها الخالق واقتضتها حكمته النافذة، ومهما اختلفت الآراء والمذاهب في ماهية هذه الغاية وتصورها، فإن حقيقتها العامة لا تقبل الجدل.
فلما ظهرت نظرية التطور العضوي، ونادت بأن الإنسان وليد سلسلة طويلة من التطورات المتعاقبة، بدأت من جرثومة في مستنقع آسن، وانتهت في خط سيرها المتخبط إلى صورته الراهنة، لم يعد هناك ما يدعو إلى التفكير في الغاية من خلق الإنسان.
إن هذه النظرية تنسب عملية التطور إلى العوامل الطبيعية البحتة، والطبيعة كما قال داروين: (تخبط خبط عشواء)، إذًا فإنه من العبث أن نبحث عن غاية مرسومة وهدف مقصود لعملية الخلق وللوجود الإنساني، فلو أن الطبيعة وهبت الضفدعة على سبيل المثال القدرة على التطور، ومنحتها ما منحته صدفة للإنسان؛ لكانت هي سيدة المخلوقات، ولهذا قال دوليان هكسلي: (من المسلَّم به أن الإنسان في الوقت الحاضر سيد المخلوقات، ولكن قد تحل محله القطة أو الفأر).
ثالثاً: حيوانية الإنسان وماديته
عندما طلع كوبرنيك بنظريته الفلكية القائلة: بأن الأرض ليست مركز الكون، أحس الضمير الأوروبي بأنه قد صدم في صميم كرامته ومركزه في الوجود، واعتقد البعض أن الإيمان بهذه النظرية إهانة مباشرة للإنسان (سيد المخلوقات)، فلما جاء داروين بنظريته، لم يزد الطين بلة فحسب بل جاء بالطامة الكبرى، فزعم أن الإنسان حيوان كسائر المخلوقات الحيوانية، فوجه بذلك إلى الكرامة الإنسانية أعنف لطمة في تاريخها، وقلب الشعور الإنساني رأساً على عقب، وهز المشاعر والمعتقدات والقيم التي كانت منذ فجر التاريخ حتى عصره راسخة لا مراء فيها، وأصبح الحال كما قال جوليان هكسلي: (بعد نظرية داروين لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً).
فإذا كان الإنسان حيوانيا فليتصرف كما تتصرف الحيوانات، لماذا يشغل باله بالقيم والمبادئ؟ ولماذا يقلق ضميره بالأخلاق والشرف والأمانة؟
إن البيئة الحيوانية لا يكون فيها كل هذا، فلماذا لا يتعامل الإنسان كما تتعامل الحيوانات في حياتها ما دام ليس هناك فرق؟؟!!
رابعًا: عمومية التطور
ويعد هذا الأثر من أهم الآثار التي أتت بها النظرية الداروينية، فإذا كانت الحياة تتطور، من الخلية الواحدة إلى الإنسان المعقد الشديد التعقيد، وإذا كان الإنسان ذاته قد تطور من حيوان سابق إلى حيوان يشبه الإنسان، إلى إنسان يشبه الحيوان، إلى إنسان، فماذا يمكن أن يكون ثابتاً على وجه الأرض على الإطلاق؟!
إنه ليست الأحياء وحدها هي التي تطورت أو تتطور.
فالحياة كلها إذًا خاضعة لمبدأ التطور، فالعادات تتطور والأخلاق تتطور والتقاليد تتطور وحتى الدين يتطور.
لذا لقد كانت هذه النقطة تحديدا أخطر النتائج المترتبة على النظرية الداروينية، واستغلتها اليهود أعظم استغلال في تحطيم الدين وإبعاده عن الحياة بصورة شبه كاملة.
وكان هذا التدبير اليهودي على أيدي ثلاثة من أكبر علمائهم، والذين قاموا بصياغة الفكر الأوروبي كله في ميدان الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع، أخطر ثلاثة ميادين في عالم الفكر على أساس معاد للدين، بل محطم لكل مفاهيمه.
أولئك هم: “ماركس”، و”فرويد”، و”دُرْكايم”.
ولكن قبل الشروع في تحليل نظرياتهم، وبيان أثرها على الواقع النهضوي الجديد، وعلى الفكر الأوروبي الحديث، يجدر بنا الإشارة إلى الواقع الجديد الذي كانت أوروبا تعيشه بعد الثورة الفرنسية وإبان المجتمع الصناعي.
وهذا ما سنشرع في بيانه بإذن الله في المقالة القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *