تتمة تحريف الشريعة النصرانية صكوك الغفران

في المقال السابق عرضنا صورة أخيرة لبعض البدع المستحدثة في الشريعة النصرانية، وفي هذا المقال نُتم ما بدأناه من ذكر بعض صور التحريف التي حدثت في هذه الشريعة التي من المفترض أنها شريعة سمائية ربانية، وفي هذه الحلقة سنتطرق لبدعة صكوك الغفران.

صكوك الغفران
كان الفرد النصراني يستطيع ضمان الملكوت مع المسيح عليه السلام باعتراف واحد في العمر، هو اعترافه ساعة احتضاره، إذ يتم دهن جسده بالزيت المقدس!! فيتطهر من كل الأرجاس والذنوب!!
واستمر الحال على ذلك فترات طويلة حتى كان مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث كانت الكنيسة تجتاز مرحلة حاسمة في تاريخها، وكانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، هذا إلى جانب الحروب الصليبية، والتي بدأ إقبال المواطنين في الخروج إليها يضعف شيئا فشيئًا، فقررت عقد مجمع عام لبحث الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فعقد المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع “لاتيران” سنة [1215م]، ونجح هذا المجمع في إقرار مسألتين كان لهما أثر بالغ على النصرانية في القرون التالية هما:
مسألة الاستحالة، وقد مرت في (العشاء الرباني).
مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمذنبين، وذلك بإصدار القرار التالي: “إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة” محاضرات في النصرانية 194.
وبعد زمن أخذ هذا التوافد في الفتور، وفي الوقت نفسه ازداد إلحاح الكنيسة على تثبيت مركزها وتعبئة خزائنها؛ فقررت اتخاذ وسيلة ناجحة لضمان استمرار ذلك؛ فقادها تفكيرها إلى كتابة الغفرانات في صكوك تباع على الملأ، وتنص على غفران أبدي، بحيث تكون حافزًا قويًا على دفع المبلغ المالي الذي تقرره الكنيسة، وهذا نص الصك:
“ربنا يسوع يرحمك يا “فلان”، ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثًا إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الأب والابن والروح القدس” محاضرات في النصرانية 214.
نتائج هذه البدعة
كانت هذه البدعة أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، لكنها ارتدت عليها بعد ذلك شرًا مستطيرًا ووباءً قاتلا.
فمن الوجهة الاقتصادية أعقب الإقبال الهائل على شراء الصكوك انكماشًا وفتورًا، فنضبت الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعًا وشراهة، واضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة.
ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئًا فشيئًا، وعجب الناس إذ رأوا كثيرًا من الأشرار والطغاة والمجرمين يتبوؤون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذانًا بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم، ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.
ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي: كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكامًا مع الأيام، وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع لرجال الدين، يمنون عليهم بالعفو إن رضوا، ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافسًا قويًا لأصحاب الإقطاعيات، لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها -لا سيما صكوك الغفران- تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة، وتأجيج سعيرها.
تلك هي صور التحريف التي حدثت في الشريعة التي من المفترض أنها شريعة سمائية ربانية.
وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نبدأ بعرض صور التسلط والظلم الكنسي، وأثره في العقلية والنفسية الغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *