كان آخر من ذكر ابن قيم الجوزية من الفلاسفة المسلمين الذين ضلوا في حياتهم، وتحلّلوا من الشريعة، وأقبلوا على شهوات البطن والفرج والرياسة، الفيلسوف المؤرخ عبد الرزاق بن الفوطي البغدادي (ت723هـ) تلميذ النصير الطوسي، وهو الذي أفسد عقيدته وأخلاقه، وقد تكلم فيه بعض العلماء، وقالوا أنه كان يشرب الخمر أحيانا ويخل بالصلوات ويدخل في بلايا، ويبالغ في تقريظ الفلاسفة والمغول وأعوانهم، حتى أنه وصف شيخه الضال -أي الطوسي- بأنه نصير الحق والدين.
كان ذلك بعض ما رواه علماء أهل السنة عن انحرافات طائفة كبيرة من الفلاسفة المسلمين، وما ذكروه عنهم هو صورة قاتمة منفرة، ركّز عليها السنيون في مقاومتهم للفلسفة اليونانية لتحقيق -على ما يبدو- أربعة أهداف رئيسية.
أولها: كشف حقيقة حال هؤلاء الفلاسفة للناس، تعريفا وتحذيرا.
وثانيها: الإثبات للناس أن انحرافات وضلالات هؤلاء الفلاسفة سببها الفلسفة اليونانية، فلو كانت صحيحة موافقة للشرع ما أثمرت تلك الانحرافات والضلالات.
وثالثها: إقامة الدليل الملموس للمسلمين على أن هؤلاء الفلاسفة يتظاهرون بالإسلام وهم لا يلتزمون به، فهم خُصومه بأفكارهم وسلوكياتهم المنحرفة.
ورابعها: تنفير الناس من الفلاسفة وحثهم على مقاومتهم والتصدي لهم.
وأشير هنا إلى أن هناك طائفة من كبار المتكلمين توسّعوا في الفلسفة وتأثروا بها تأثرا كبيرا، فهم ينتمون لأهل السنة من جهة، وإلى أهل الفلسفة من جهة أخرى، لذلك انتقدهم بعض كبار علماء أهل السنة انتقادا لاذعا، في بعض أفكارهم وسلوكياتهم؛ أذكر منهم أربعة، أولهم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، قال عنه تلميذه أبو بكر بن العربي المالكي المغربي: (شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع)، وفي رواية أخرى (دخل أجوافهم فلم يخرج منها).
وأرجع الحافظ شمس الدين الذهبي سبب موافقة أبي حامد الغزالي للفلاسفة في بعض أفكارهم إلى الخطأ لا إلى التعمد، ظنا منه أن ما وافقهم عليه هو حق موافق للملة، هذا إلى جانب أنه لم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة له بالسنة النبوية.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقال عنه -أي عن الغزالي-: كانت فيه فلسفة مشوبة بالإسلام، وإسلام مشوب بفلسفة؛ ومادته الفلسفية مصدرها الرئيسي كلام ابن سينا، لذا قيل عنه: أبو حامد أمرضه الشفاء، أي كتاب الشفاء لابن سينا.
وذكر -أي ابن تيمية- أن الغزالي قد عابه صنفان من أهل العلم، الأول علماء الإسلام، ذموه على ما شارك فيه الفلاسفة من أفكار تخالف الإسلام، والصنف الثاني هم الفلاسفة، عابوه على ما بقي معه من الإسلام، ولم ينسلخ منه كلية إلى قولهم، ولهذا كان ابن رشد الحفيد ينشد فيه:
يوم إذا جئت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدناني
ثم ذكر ابن تيمية أن أبا حامد تاب في آخر عمره عما كان فيه، ورجع عن طريقة المتكلمين والفلاسفة والصوفية إلى طريقة أهل الحديث، بعدما يئس من طريقة أولئك، وتفرّغ للاشتغال بصحيحي البخاري ومسلم، ومات وهو يشتغل بهما.
والثاني هو المتكلم المشهور محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548هـ)، قال عنه الرحالة ياقوت الحموي (ق:7هـ) والحافظ الذهبي: كان متخبطا في الاعتقاد، يميل إلى أهل الإلحاد كالباطنية الإسماعيلية، ويبالغ في نصرة مذهب الفلاسفة والذب عنهم، وانتقده ابن تيمية في أنه كان يُظهر ميله للشيعة، إما بباطنه وإما مداهنة لهم، وذلك أنه صنف كتاب الملل والنحل لرئيس من رؤسائهم، كانت له ولاية ديوانية استعطفه به.