ورابع العلماء الذين انتقدوا منهج الفلاسفة هو الحافظ أبو الفدا بن كثير، انتقد منهج الفلاسفة في الإلهيات -ما وراء الطبيعة- بأنه قائم على الجهل وقلة العقل، والخوض فيما لا يُدركه العقل، والقول على الله بلا علم، وآخرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت852هـ)، أشار إلى أن منهج الفلاسفة يقوم على إنكار كثير من حقائق الدين، كإنكارهم تكوير الشمس يوم القيامة، وانفتاح أبواب السماء ليلة الإسراء والمعراج.
ويُستنتج مما ذكرناه في هذا المبحث، أن تركيز بعض العلماء السنيين على انتقاد كبار رجال الفلسفة اليونانية هو عمل هام جدا، ساعد على تحطيم كبرياء هؤلاء، وإذهاب تعظيم الناس لهم. كما أن تركيزهم على انتقاد خصائص الفلسفة اليونانية، ومنهجها الفكري، هو عمل في غاية الأهمية، فبفضله تبين أنها -أي الفلسفة اليونانية- تفتقد إلى العلمية والدقة والإتقان، لأن قسما كبيرا منها يقوم على الظنون الكاذبة والأقيسة الفاسدة والقول على الله بلا علم. وفلسفة هذا هو حالها ومنهاجها، لا شك أنها باطلة في عمومها، خطؤها كثير وصوابها قليل.
وختاما لهذا الفصل يتبين منه أن المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي- قد تنوّعت وسائلها، وغطّت مختلف المجالات العلمية، ذكرت منها ثمانية مجالات رئيسية، بينت في مجملها ما بذله علماء أهل السنة في مقاومتهم لتلك الفلسفة.
وتبيّن أيضا أن السنيين قد وُفقوا إلى حد كبير في ردودهم العلمية على الفلسفة اليونانية، التي تركّزت أساسا في مجال الإلهيات -ما وراء الطبيعة-، فبينوا زيف إلهيات اليونان وأتباعهم من المسلمين وغيرهم، وكشفوا أباطيلهم وضلالاتهم، معتمدين على منهج جمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول في غالب الأحيان.
المقاومة السنية العملية للفلسفة اليونانية ورجالها
اتخذت المقاومة السنية العملية للفلسفة اليونانية ورجالها، أشكالا متعددة ووسائل متنوعة، كانت ذات صبغة عملية واقعية، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، قصد التصدي لتلك الفلسفة وأهلها، وسأذكرها فيما يلي تباعا إن شاء الله تعالى.
أولا: حرق كتب الفلسفة ومنع بيعها
عثرتُ على ثلاثة حوادث بالمشرق الإسلامي أُحرقت فيها كتب الفلسفة، أولها إن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (ت 421هـ) لما ملك مدينة الري، أحرق كتب الفلاسفة والنجوم والاعتزال.
والثانية هي أنه لما تولى الطبيب المتفلسف أبو الوفاء بن المرخم (ت555هـ) قضاء بغداد، وأساء السيرة في الرعية، أمر الخليفة العباسي المستنجد بالله بالقبض عليه سنة 555هـ، فاستُصفيت أمواله، وأخذت منه كتبه، وأُحرق منها ما كان في علوم الفلسفة، كرسائل إخوان الصفا، وكتاب الشفاء لابن سينا وما يشاكلهما، وأُدخل ابن المرخم السجن فمات فيه.
والثالثة هي أنه عندما اتهم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني البغدادي (ت 611 هـ) بالتعطيل واعتقاد عقيدة الفلاسفة، جمع الوزير ابن يونس البغدادي الحنبلي (ت 593 هـ) كتبه وعقد له محاكمة حضرها أعيان الناس، وفيها كان الطبيب أبو بكر بن المارستانية (ت 599 هـ) يقرأ بعض كتب عبد السلام على الحاضرين، ويقول: ألعنوا من كتبها ومن يعتقدها، فيصيح العوام باللعن حتى تعدى إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني.
ثم وجد محاكموه في بعض كتبه مخاطبة كوكب زُحل، بقوله: (أيها الكوكب المنير أنت مدبر الأفلاك، وتحي وتُميت وأنت إلهنا)، فقالوا له: أهذا خطك؟ قال: بلى، كتبته لأرد على قائله ومن يعتقده. فأمر الوزير بإحراق كتبه، من بينها: كتب الفلسفة والسحر وعبادة النجوم، ورسائل إخوان الصفا. وأدخل السجن مدة ثم أُفرج عنه بعد استتابته.